بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة مؤسس زاوية الهامل الولي الصالح الشيخ سيدي محمد بن أبي القاسم الهاملي
جاء في حلية الأولياء للأصفهاني عند حديثه عن أولياء الله ما يأتي :
"هؤلاء المحبون يتوجهون إلى الله تعالى بصدق الانقطاع إليه سبحانه، فلا يلتفتون إلى هجوم الأرزاق، وقد انخلعوا من الحول والقوة، قلوبهم دائمة الحضور مع حبيبهم حياء منه سبحانه، شديدة الانكسار هيبة لله تعالى، راضية وموافقة لكل ما يفعله المولى بهم، فهم المنخلعون من حظوظهم، التاركون لأحكام نفوسهم... فهؤلاء هم الذين يستحقون لطف البارئ وعنايته ومحبته."
ونجد كل هذه الصفات مجسدة في شخصية مؤسس زاوية الهامل، ومنها نستطيع فهم بعض أسرار سرعة اشتهارها وبروزها على الساحة الدينية في البلاد الجزائرية، واكتسابها هذه المكانة الرفيعة في هذا الظرف الوجيز من الزمن. ومن خلال هذه المفاتيح نستطيع تركيز النور أكثر فأكثر على بعض المعطيات والنقاط الغامضة. نستطيع فهم التطور الذي حصل في هذه المؤسسة العلمية الدينية الرائدة.
مؤسس زاوية الهامل هو الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي الشريف الإدريسي، من أشهر رجالات القرن التاسع عشر في الجزائر، ومن كبار العلماء والمصلحين ورجال التعليم، ينحدر من أسرة شريفة كريمة متمسكة بالدين متحلية بالخلق الكريم.
نسبـه الشريف:
هـو أبو عبد الله محمد بن أبي القاسـم بن ربيح بن محمـد بن عبد الرحيم بن سائب بن منصور بن عبد الرحيم بن أيوب بن عبد الرحيم بن علي بن رباح بن أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الكريم بن موسى بن عبد الرحيم بن عبد الله بن أبو زيـد بن علي بن مهدي بن صفوان بن موسى بن سليمان بن يسار بن سليمان بن مـوسى بن عيسى بن محمد بن عيسى بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامـل بن الحسن المثـنى بن الحسن السبط بن فاطمة بنت رسول الله.
وهو ينتمي بذلك إلى العترة الطيبة من آل البيت الطاهرين، الذين دخلوا الجزائر في حوالي القرن السادس الهجري، وقد كان سيدي بوزيد أول من دخل البلاد من هذه السلالة الكريمة، وهو يعتبر جد معظم الأشراف الموجودين في مناطق الهضاب العليا وشمال الصحراء، كما أكدَّ ذلك كثير من الأساتذة الباحثين المعاصرين، ومن قبلهم العلماء والحكام، من أمثال الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، والشيخ محمد بن عرفه، وقد شهدت السلطات التركية بانتماء سيدي بوزيد إلى آل البيت، وذلك في وثاثق رسمية صادرة عن الدايات هنا بالجزائر، وشهادة الشرف لا تمنح من طرف الأتراك إلا بعد التأكد من صحة النسب، لأن ذلك يعني سقوط الضرائب عنهم وتمتعهم بحماية الدولة.
أما صحة انتساب المؤسس إلى سيدي بوزيد هو ثابت بالتواتر، إذ أن أجداد الشيخ محمد بن أبي القاسم الذين قدموا من جبل العمور كانوا هم أحفاد سيدي بوزيد رأسا، وحظيت المنطقة باحترام وتقدير كبيرين من طرف السكان المجاورين، احتراما لمن حلَّ بها من أحفاد الشريف الحسني الإدريسي.
أسـرتـه الكريمة:
ينتمي الشيخ محمد بن أبي القاسم إلى فريق أولاد سيدي علي، أحد فرق شرفة الهامل الخمسة، وهم:
أولاد سيدي أحمد البكاي ـ أولاد سيدي أحمد ـ أولاد سيدي علي ـ أولاد سيدي بلقاسم بن علي الحسينات ـ أولاد سيدي أحمد بوعدي.
أبوه الشيخ "أبو القاسم" الحسني، عرف بسعة علمه وصلاحه وتقواه، وكان صاحب غيرة على الدين والأهل مربيا للأيتام، ولد في بداية القرن الثالث عشر الهجري ( 1201هـ= 1784م)، بمنطقة أولاد نايل، واصل مهمة آبائه بالمنطقة، إذ كانوا قد قدموا من الهامل لتدريس مبادئ الشريعة الإسلامية، بطلب من أهالي الناحية، حج إلى بيت الله الحرام مرتين سيرا على الأقدام، وكان من مريدي الطريقة الرحمانية، ومن أتباع الشيخ المختار بن خليفة شيخ زاوية أولاد جلال. كان يختم نصف القرآن الكريم في اليوم الواحد، خصوصا في أواخر أيامه، ويروى عنه أنه ما ترك قراءة القرآن في اللوح حتى مات.
رزق من الأبناء ثلاثة، توفي أحدهم في شبابه، وعاش الآخران، وهما المترجم له، والشيخ سيدي الحاج امحمد بن أبي القاسم ـ جد الأسرة القاسمية ـ.
توفي رحمه الله غرة ربيع الأول سنة 1278هـ= 1861م بالهامل ودفن بها.
أمه السيدة عائشة بنت مازوز، شريفة حسنية من أقارب والده، اشتهرت هي أيضا بالصلاح والتقوى والزهد ومحبة الصالحين، لا نعرف عنها الشيء الكثير إلا ما رثاها به الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي :
أم الفضائل ما لهـا في عصرنـا أبدا مـدان في خـلال فاخره
ذات الديانة والصيانة والحيـا والحلم والشيم الحسان الزاهره
صوامة قوامـة قـد خصصت بمعـارف وعـوارف متوافره
لـم تترك الأعمال حتى بضعفها فهـي المسبحة الالـه الذاكره
وقد توفيت رضي الله عنها سنة 1301هـ.
في هذا الوسط الديني المفعم بالتربية الروحية والأخلاق العالية، ولد محمد بن أبي القاسم.
مـولـده:
ولد الشيخ في أول محرم الحرام سنة 1240هـ ـ كما وجدنا ذلك في إحدى الوثائق بخط يده، وهو ما وجدناه أيضا في وثيقة الشرف التي أعدت بإشراف الشيخ محمد بن الحاج محمد ـ والموافق 26 جويليت 1824م. ـ بينما يذكر ابن أخيه الشيخ محمد بن الحاج محمد أن مولده كان في شهر رمضان من سنة 1239هـ، وهو التاريخ الذي تناقلته أقلام الذين ترجموا للشيخ فيما بعد ـ. كما وجدنا في بعض التقارير الفرنسية أنه من مواليد سنة 1820م وهو أمر نستبعده.
وكان مولده ببادية "الحامدية" في ناحية جبل تاسطارة، بين بلديتي دار الشيوخ وحاسي بحبح بولاية الجلفة، وهو أمر لم يقع حوله اختلاف، بل على العكس المكان لا يزال معروفا لدى الخاصة والعامة، ومحاط بمجموعة من الحجارة، وهو من المقامات المقدسة لدى سكان المنطقة.
طلبه العلم:
نشأ على محبة العلم منذ نعومة أظفاره، ولما بلغ سن التعلم وكعادة السادة أشراف الهامل، أرسله والده إلى الكتاب. وفي السنة التي دخل فيها الاحتلال الفرنسي الجزائر بدأ حفظ القرآن الكريم أي سنة 1246هـ = 1830م. وأتم حفظه على يد ابن عم له يدعى محمد بن عبد القادر العروف بـ "كريرش".
في سنة 1252هـ= 1836م ـ حسب الرواية الشفوية المتداولة ـ وعند مرور الأمير عبد القادر بمنطقة بوسعادة اجتمع به أعيان المنطقة ومنهم: الشيخ أبو القاسم والد المؤسس رفقة ابنه وبايعوه على الخلافة، وهي البيعة التي ذكر الشيخ أنه لن ينزعها من عنقه ما حي.
انتقل سنة 1253هـ= 1837م إلى زاوية علي الطيار بمنطقة البيبان رفقة أخيه سيدي الحاج محمد، لمواصلة طلب العلم، فأتقن القراءات السبع وفن التجويد على يد أحد شيوخ الزاوية المسمى "سي الصادق". أقام هناك سنتين. عاد بعدها إلى بلده الهامل.
مقابلة الأمير عبد القادر:
في سنة 1260هـ = 1844م أراد الالتحاق بصفوف المقاومة بجيش الأمير عبد القادر إلا أن هذا الأخير رفض ـ وذلك في مقابلة معه بمنطقة الجبل الأبيض بالبيرين ـ ولاية الجلفة ـ، وفيها جدد البيعة ثانية للأمير عبد القادر ـ ورأى أنه من الأفضل له مواصلة تعلمه والقيام بمهمة التعليم والإرشاد والتوجيه، وكان ذلك في آخر سنوات المقاومة، وعند مرور الأمير عبد القادر بمنطقة الهضاب العليا حوالي سنة 1260هـ.
وفي السنة نفسها نزل بزاوية سيدي السعيد بن أبي داود بزواوة، ـ كما ذكر ذلك الشيخ المؤسس في ترجمته لنفسه، وما وجدناه في ترجمة المؤسس في شجرة الأسرة القاسمية ـ. ويذكر بعض الباحثين أن ذهابه إلى زاوية الشيخ بن أبي داود كان سنة 1256هـ= 1840م.
وزاوية سيدي السعيد بن أبي داود هي من أشهر زوايا القطر آنذاك وعرفت بأنها تقدم الجانب الفقهي على الصوفي، وأما لماذا اختار بالذات زاوية الشيخ سيدي السعيد بن أبي داود، فالنص الذي أورده الشيخ الحفناوي قد يبين لنا الأمر ويجليه، وإن كان يبقى في الأخير مجرد فرضية . وهو أن المعتقد في تلك الزاوية أن الفتح لخريجي زاوية سيدي علي الطيار لا يكون إلا في زاوية سيدي السعيد بن أبي داود، وعليه فطلبة علي الطيار يتوجهون رأسا إلى زاوية سيدي السعيد. ولعل الشيخ محمد بن أبي القاسم لم يشأ الخروج عن العادة والمألوف، ثم لاشتهار أمر هذه الزاوية بالمنطقة.
أقام بالزاوية المذكورة لتعلم الفقه والنحو وعلم الكلام والفرائض والمنطق وغيره، وبرز في ذلك.
وفي السنة الثانية من إقامته بالزاوية كلفه شيخه بتدريس المبتدئين، في السنة الرابعة عينه مناوبا له في الدرس، في السنة الخامسة أمره بالتدريس في زاوية ابن أبي التقى قرب برج بوعريريج، وقام بمهمته أحسن قيام، وترك هناك أثرا طيبا وذكرا حسنا.
في نهاية السنة الخامسة اجتمع ثلاثة من أعيان أشراف الهامل هم: محمد زيان الشريف، إبراهيم بن الحاج، السيد أبو الأجدل بن عمر، بالشيخ أحمد بن أبي داود، وطلبوا منه السماح للطالب محمد بن أبي القاسم بالرجوع معهم إلى قريتهم ونشر العلم هناك، بإذن منهم فكان لهم ما أرادوا، وكتب الشيخ أحمد بن داود جوابا للشيخ يأمره بالتدريس ببلدته، وعاد الطالب إلى بلده وذلك سنة 1265 هـ = 1848م.
في سنة 1279هـ= 1862م شرع في بناء زاويته المعمورة على جهة الغرب من قرية الأشراف في سفح جبل يقال له "عمران"، فبنى منزلا للعائلة في غاية العلو والارتفاع محفوفا من كل الجهات بالعمارات، وبنى في جنبه من جهة المشرق حوشا يجلس فيه لإرشاد الخلق وتصريف أحوالهم، وتأكل فيه الطلبة والإخوان، وبيتا يطبخون بها التلامذة الطعام تسمى " النوالة"، وعمّر بلصقها مسجدا يصلي فيه الخمس مع خاصة تلامذته الملازمين له، يسمى بمسجد سيدي عبد القادر ويتلى فيه القرآن بمحضره في كل ليلة نحو الخمسة أحزاب، ويدرس به الحديث والنحو والتفسير ويقرأ فيه الموالد النبوية وتنشد فيه المدائح النبوية.
وعمل بلصق الجميع من كل جهة نحو خمسين مسكنا للمصالح الوقتية.
دخل زاويته ـ وكانت الزاوية الوحيدة الموجودة بالمنطقة ـ رفقة الأهل والإخوان أول محرم الحرام 1280هـ= 18 جويليت 1863م.
وفي سنة 1281هـ= 1864م شرع في بناء مسجد للطلبة والإخوان ولدرس الفقه وغيره، فجاء مسجدا عظيما في الاتساع والطراز.
وعمل مساكن للطلبة والإخوان خارجة عن منازله الخصوصية، فكانت نحو المائة مسكن وهي من عمل الطلبة والإخوان بحيث أنه من رغب في السكنى يبني دارا ويحبسها على الزاوية.
ومع اشتغاله بالخلق على كثرة أصنافهم لا يترك الدروس في علوم عديدة منها: الفقه، الحديث، التفسير، النحو، الكلام وغير ذلك.
أما الفقه من سنة 1279هـ= 1863م إلى سنة 1288هـ= 1871م يتولى درسه بنفسه، ولما تكاثرت عليه الأشغال فوّض التدريس إلى نجباء الطلبة.
وختم عدة وافرة من كتب الحديث المعتبرة ختمات عديدة كالموطأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم والجامع الصغير وشروح شمائل الترمذي وشرح الأربعين النووية وسيدي عبد الله بن أبي جمرة وشفاء القاضي عياض.... يسرد على التوالي نحو الثلاث كراسات بلا تعب ولا ملل، ولولا سآمة أهل المجلس أو ما يعرض من الحوائج أو أوقات الصلوات ما كان يقطع القراءة.
وذاعت شهرة الشيخ في المناطق المجاورة، فقصد الزاوية الطلبة من كل مكان من: المدية، تيارت، شرشال، سطيف، المسيلة، الجلفة.........
وتوافد على الزاوية الأساتذة والعلماء من جميع الجهات، وتحولت إلى مركز لقاء بينهم ومنتدى علمي ثقافي يؤمه خيرة علماء البلد. وصفها أحد الشيوخ فقال:"كانت الزاوية المعمورة محلا للعلماء العاملين".
وكان يرتادها في هذه الفترة ما بين 200 و300 طالب سنويا. يدرسهم 19 أستاذا على رأسهم الأستاذ نفسه.
من أعماله:
ـ في سنة المجاعة 1285هـ= 1868م (عام الشر) قام الشيخ بإيواء عشرات العائلات والإنفاق عليها.
ـ في سنة 1288هـ = 1871م، ساهم بمد ثورة المقراني بالرجال والسلاح، وبعد الهزيمة أحضر أبناء الزعيم المقراني، وحوالي ثمانين عائلة من الذين تضرروا من اضطهاد سلطات الاحتلال، وأقاموا بالزاوية معززين مكرمين، ولا يزال "حي المقارنة" بالقرية شاهدا على ذلك.
ـ قدم سنة 1304هـ= 1886م إلى زيارة شيخ المشايخ سيدي محمد بن عبد الرحمن وسيدي عبد الرحمن الثعالبي وأهل الله بحاضرة الجزائر، وتتلمذ له جل أهلها من علمائها وفضلائها، وكذا نواحيها كالمدية والبليدة ومتيجة وشرشال والحراش وتابلاط، وفي هذه الزيارة رمم ضريح الشيخ بن عبد الرحمن بالزليج والرخام.
في هذه الزيارة عرضت عليه السلطات الفرنسية الإقامة بالجزائر، وإنشاء مدرسة له، رغبة منها في مراقبته والسيطرة على تحركاته والحد من تأثيره على الأوساط الشعبية، بعد قضائها على مختلف الحركات الثورية، لكن الشيخ رفض طلبها، محتجا بأن بقائه بالجزائر سيؤدي حتما إلى المزيد من المشاكل، ويثير العديد من الهزات الاجتماعية فرنسا في غنى عنها.
وظل يتردد على الجزائر العاصمة كل سنة غالبا، آخرها السنة التي انتقل فيها إلى جوار ربه.
ـ اهتم رضي الله عنه بتعمير الأرض واستصلاحها وزراعتها، وذلك لتأمين مصدر رزق للزاوية، فاستصلح عشرات الهكتارات بوادي الهامل والمناطق المجاورة له، كمرحلة أولى، وبنى به السدود وشق السواقي ورفعها، وجعل كل ذلك وقفا على الزاوية يستفيد منه الطلبة والفقراء والمحتاجين، ثم بدأ في مرحلة ثانية بشراء الأراضي الزراعية في المناطق الأخرى مثل المسيلة والجلفة وتيارت والمدية تيزي وزو وغيرها من المناطق، وجعلها أيضا وقفا على طلبة العلم من رواد زاويته.
ـ أوقف أموالا وعقارات وبساتين على زوايا شيوخه في أولاد جلال، برج بن عزوز، آقبو، طولقة والجزائر العاصمة، على مقام محمد بن عبد الرحمن الأزهري، بل هو الذي بنى الحائط الذي يحمى المقبرة ويحيط بها.
ـ كان ? يدفع مرتبات دائمة لطلبة العلم والقرآن الكريم بالحرمين الشريفين ويساعد العلماء والشيوخ في ذلك، تشهد بذلك مراسلاتهم الكثيرة والمتعددة.
ـ في سنة 1307هـ= 1889م جدد بناء مسجد الأسلاف المشهورين بـ "حجاج الهامل"، محافظا على طرازه القديم.
ـ أنشأ أكثر من ثلاثين زاوية تابعة للزاوية الأم بالهامل.
وفاتـه:
كان ? في طريق عودته من الجزائر، أين جاءه جواب من عند تلامذته في بويرة السحاري، يخبرونه بحدوث هرج ومرج بينهم واستدعوه للقدوم عليهم ليجري الصلح بينهم كما هي عادته في نشر الأمن والعافية، فلبى دعوتهم وأجرى الصلح بينهم، وتوفي بعد ذلك عندهم على الساعة الثانية زوالا من يوم الأربعاء أول محرم الحرام 1315هـ= 2 جوان 1897. عن عمر يناهز 73 سنة. وأخبرت أن السجادة التي توفي عليها لا تزال الأسرة التي كان عندها تحتفظ بها إلى يوم الناس هذا، ورفضت منحها إلى شيوخ الزاوية القاسمية الذين طلبوها منهم.
وقد اشتهر على ألسنة الناس آنذاك أنه مات مسموما، وهو أمر لا نستبعده بالنظر إلى الأوامر التي جاءت من السلطات العسكرية بوجوب إخراج الرجل من الجزائر العاصمة لما أصبح يشكل خطرا على الأمن والاستقرار في المدينة بسبب كثرة الإخوان والمريدين، طلبت إخراجه وحددت أماكن إقامته في المدن التي ينزل بها ومدة إقامته، ولم تراع في ذلك كبر سنه ولا تدهور صحته.
دفن صباح يوم الخميس 2 محرم الحرام على الساعة العاشرة صباحا، وتولى الصلاة عليه الشيخ سيدي محمد. وحضر جنازته جم غفير من العلماء الأبرار والأتقياء الأخيار من أعيان البلدة وأفاضل الأمصار.
وكانت مدة إقامته بزاويته منذ بناها إلى توفاه الله نحو من سبع وثلاثين سنة، ودفن بمسجده بالهامل، وبنيت عليه قبة بمبلغ جسيم من المال سنة 1323هـ= 1904م إلا أنها سقطت سنة 1326هـ= 1907م وأعاد بنائها الشيخ محمد بن الحاج محمد.
مكانته:
بفضل مكانة الشيخ ومستواه وانتمائه إلى أهل البيت، أعطى الشيخ بعدا آخرا للطريقة الرحمانية، وامتد بواسطته تأثيرها إلى أبعد المناطق الممكنة.
جاء في إحدى التقارير السرية للضباط الفرنسيين: "... وشيئا فشيئا بدأ مقدموه بالتوغل في بلاد القبائل، وحتى إلى البلاد التونسية، وذاع اسم الشيخ محمد بن أبي القاسم، أكثر فأكثر".
ربطته علاقات ممتازة ـ دلت عليها المراسلات الكثيرة الموجودة بمكتبة الأسرة القاسمية ـ مع الأسر الثورية في الجزائر: المقراني، بوعزيز، الأمير عبد القادر، وكذا الأسر العلمية: أبناء أبي داود، أسرة محمد بن عزوز البرجي، أسرة علي بن عمر الطولقي، باش تارزي بقسنطينة، الحداد ببلاد القبائل، بن الحفاف بالجزائر العاصمة، الموسوم بقصر البخاري، غلام الله بتيارت...مما حير عقول الضباط الفرنسيين وأثار دهشتهم. كما عبروا على ذلك في تقاريرهم السرية التي كانوا يرفعونها دوريا إلى الحكومة العامة بالجزائر.
ترك ورائه ابنته الوحيدة "لالا زينب" والتي تولت مشيخة الزاوية بعده، وأدارت شئونها مدة سبع سنوات، واتبعت خطوات أبيها خطوة خطوة، ولم تحد عنها قيد أنملة، في التعليم والإرشاد، أتمت بناء المسجد، الذي بدأ بناؤه والدها.
بقلم: الدكتور عبد المنعم قاسمي مدير مركز القاسمي للدراسات والأبحاث الصوفية
ترجمة مؤسس زاوية الهامل الولي الصالح الشيخ سيدي محمد بن أبي القاسم الهاملي
جاء في حلية الأولياء للأصفهاني عند حديثه عن أولياء الله ما يأتي :
"هؤلاء المحبون يتوجهون إلى الله تعالى بصدق الانقطاع إليه سبحانه، فلا يلتفتون إلى هجوم الأرزاق، وقد انخلعوا من الحول والقوة، قلوبهم دائمة الحضور مع حبيبهم حياء منه سبحانه، شديدة الانكسار هيبة لله تعالى، راضية وموافقة لكل ما يفعله المولى بهم، فهم المنخلعون من حظوظهم، التاركون لأحكام نفوسهم... فهؤلاء هم الذين يستحقون لطف البارئ وعنايته ومحبته."
ونجد كل هذه الصفات مجسدة في شخصية مؤسس زاوية الهامل، ومنها نستطيع فهم بعض أسرار سرعة اشتهارها وبروزها على الساحة الدينية في البلاد الجزائرية، واكتسابها هذه المكانة الرفيعة في هذا الظرف الوجيز من الزمن. ومن خلال هذه المفاتيح نستطيع تركيز النور أكثر فأكثر على بعض المعطيات والنقاط الغامضة. نستطيع فهم التطور الذي حصل في هذه المؤسسة العلمية الدينية الرائدة.
مؤسس زاوية الهامل هو الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي الشريف الإدريسي، من أشهر رجالات القرن التاسع عشر في الجزائر، ومن كبار العلماء والمصلحين ورجال التعليم، ينحدر من أسرة شريفة كريمة متمسكة بالدين متحلية بالخلق الكريم.
نسبـه الشريف:
هـو أبو عبد الله محمد بن أبي القاسـم بن ربيح بن محمـد بن عبد الرحيم بن سائب بن منصور بن عبد الرحيم بن أيوب بن عبد الرحيم بن علي بن رباح بن أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الكريم بن موسى بن عبد الرحيم بن عبد الله بن أبو زيـد بن علي بن مهدي بن صفوان بن موسى بن سليمان بن يسار بن سليمان بن مـوسى بن عيسى بن محمد بن عيسى بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامـل بن الحسن المثـنى بن الحسن السبط بن فاطمة بنت رسول الله.
وهو ينتمي بذلك إلى العترة الطيبة من آل البيت الطاهرين، الذين دخلوا الجزائر في حوالي القرن السادس الهجري، وقد كان سيدي بوزيد أول من دخل البلاد من هذه السلالة الكريمة، وهو يعتبر جد معظم الأشراف الموجودين في مناطق الهضاب العليا وشمال الصحراء، كما أكدَّ ذلك كثير من الأساتذة الباحثين المعاصرين، ومن قبلهم العلماء والحكام، من أمثال الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، والشيخ محمد بن عرفه، وقد شهدت السلطات التركية بانتماء سيدي بوزيد إلى آل البيت، وذلك في وثاثق رسمية صادرة عن الدايات هنا بالجزائر، وشهادة الشرف لا تمنح من طرف الأتراك إلا بعد التأكد من صحة النسب، لأن ذلك يعني سقوط الضرائب عنهم وتمتعهم بحماية الدولة.
أما صحة انتساب المؤسس إلى سيدي بوزيد هو ثابت بالتواتر، إذ أن أجداد الشيخ محمد بن أبي القاسم الذين قدموا من جبل العمور كانوا هم أحفاد سيدي بوزيد رأسا، وحظيت المنطقة باحترام وتقدير كبيرين من طرف السكان المجاورين، احتراما لمن حلَّ بها من أحفاد الشريف الحسني الإدريسي.
أسـرتـه الكريمة:
ينتمي الشيخ محمد بن أبي القاسم إلى فريق أولاد سيدي علي، أحد فرق شرفة الهامل الخمسة، وهم:
أولاد سيدي أحمد البكاي ـ أولاد سيدي أحمد ـ أولاد سيدي علي ـ أولاد سيدي بلقاسم بن علي الحسينات ـ أولاد سيدي أحمد بوعدي.
أبوه الشيخ "أبو القاسم" الحسني، عرف بسعة علمه وصلاحه وتقواه، وكان صاحب غيرة على الدين والأهل مربيا للأيتام، ولد في بداية القرن الثالث عشر الهجري ( 1201هـ= 1784م)، بمنطقة أولاد نايل، واصل مهمة آبائه بالمنطقة، إذ كانوا قد قدموا من الهامل لتدريس مبادئ الشريعة الإسلامية، بطلب من أهالي الناحية، حج إلى بيت الله الحرام مرتين سيرا على الأقدام، وكان من مريدي الطريقة الرحمانية، ومن أتباع الشيخ المختار بن خليفة شيخ زاوية أولاد جلال. كان يختم نصف القرآن الكريم في اليوم الواحد، خصوصا في أواخر أيامه، ويروى عنه أنه ما ترك قراءة القرآن في اللوح حتى مات.
رزق من الأبناء ثلاثة، توفي أحدهم في شبابه، وعاش الآخران، وهما المترجم له، والشيخ سيدي الحاج امحمد بن أبي القاسم ـ جد الأسرة القاسمية ـ.
توفي رحمه الله غرة ربيع الأول سنة 1278هـ= 1861م بالهامل ودفن بها.
أمه السيدة عائشة بنت مازوز، شريفة حسنية من أقارب والده، اشتهرت هي أيضا بالصلاح والتقوى والزهد ومحبة الصالحين، لا نعرف عنها الشيء الكثير إلا ما رثاها به الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي :
أم الفضائل ما لهـا في عصرنـا أبدا مـدان في خـلال فاخره
ذات الديانة والصيانة والحيـا والحلم والشيم الحسان الزاهره
صوامة قوامـة قـد خصصت بمعـارف وعـوارف متوافره
لـم تترك الأعمال حتى بضعفها فهـي المسبحة الالـه الذاكره
وقد توفيت رضي الله عنها سنة 1301هـ.
في هذا الوسط الديني المفعم بالتربية الروحية والأخلاق العالية، ولد محمد بن أبي القاسم.
مـولـده:
ولد الشيخ في أول محرم الحرام سنة 1240هـ ـ كما وجدنا ذلك في إحدى الوثائق بخط يده، وهو ما وجدناه أيضا في وثيقة الشرف التي أعدت بإشراف الشيخ محمد بن الحاج محمد ـ والموافق 26 جويليت 1824م. ـ بينما يذكر ابن أخيه الشيخ محمد بن الحاج محمد أن مولده كان في شهر رمضان من سنة 1239هـ، وهو التاريخ الذي تناقلته أقلام الذين ترجموا للشيخ فيما بعد ـ. كما وجدنا في بعض التقارير الفرنسية أنه من مواليد سنة 1820م وهو أمر نستبعده.
وكان مولده ببادية "الحامدية" في ناحية جبل تاسطارة، بين بلديتي دار الشيوخ وحاسي بحبح بولاية الجلفة، وهو أمر لم يقع حوله اختلاف، بل على العكس المكان لا يزال معروفا لدى الخاصة والعامة، ومحاط بمجموعة من الحجارة، وهو من المقامات المقدسة لدى سكان المنطقة.
طلبه العلم:
نشأ على محبة العلم منذ نعومة أظفاره، ولما بلغ سن التعلم وكعادة السادة أشراف الهامل، أرسله والده إلى الكتاب. وفي السنة التي دخل فيها الاحتلال الفرنسي الجزائر بدأ حفظ القرآن الكريم أي سنة 1246هـ = 1830م. وأتم حفظه على يد ابن عم له يدعى محمد بن عبد القادر العروف بـ "كريرش".
في سنة 1252هـ= 1836م ـ حسب الرواية الشفوية المتداولة ـ وعند مرور الأمير عبد القادر بمنطقة بوسعادة اجتمع به أعيان المنطقة ومنهم: الشيخ أبو القاسم والد المؤسس رفقة ابنه وبايعوه على الخلافة، وهي البيعة التي ذكر الشيخ أنه لن ينزعها من عنقه ما حي.
انتقل سنة 1253هـ= 1837م إلى زاوية علي الطيار بمنطقة البيبان رفقة أخيه سيدي الحاج محمد، لمواصلة طلب العلم، فأتقن القراءات السبع وفن التجويد على يد أحد شيوخ الزاوية المسمى "سي الصادق". أقام هناك سنتين. عاد بعدها إلى بلده الهامل.
مقابلة الأمير عبد القادر:
في سنة 1260هـ = 1844م أراد الالتحاق بصفوف المقاومة بجيش الأمير عبد القادر إلا أن هذا الأخير رفض ـ وذلك في مقابلة معه بمنطقة الجبل الأبيض بالبيرين ـ ولاية الجلفة ـ، وفيها جدد البيعة ثانية للأمير عبد القادر ـ ورأى أنه من الأفضل له مواصلة تعلمه والقيام بمهمة التعليم والإرشاد والتوجيه، وكان ذلك في آخر سنوات المقاومة، وعند مرور الأمير عبد القادر بمنطقة الهضاب العليا حوالي سنة 1260هـ.
وفي السنة نفسها نزل بزاوية سيدي السعيد بن أبي داود بزواوة، ـ كما ذكر ذلك الشيخ المؤسس في ترجمته لنفسه، وما وجدناه في ترجمة المؤسس في شجرة الأسرة القاسمية ـ. ويذكر بعض الباحثين أن ذهابه إلى زاوية الشيخ بن أبي داود كان سنة 1256هـ= 1840م.
وزاوية سيدي السعيد بن أبي داود هي من أشهر زوايا القطر آنذاك وعرفت بأنها تقدم الجانب الفقهي على الصوفي، وأما لماذا اختار بالذات زاوية الشيخ سيدي السعيد بن أبي داود، فالنص الذي أورده الشيخ الحفناوي قد يبين لنا الأمر ويجليه، وإن كان يبقى في الأخير مجرد فرضية . وهو أن المعتقد في تلك الزاوية أن الفتح لخريجي زاوية سيدي علي الطيار لا يكون إلا في زاوية سيدي السعيد بن أبي داود، وعليه فطلبة علي الطيار يتوجهون رأسا إلى زاوية سيدي السعيد. ولعل الشيخ محمد بن أبي القاسم لم يشأ الخروج عن العادة والمألوف، ثم لاشتهار أمر هذه الزاوية بالمنطقة.
أقام بالزاوية المذكورة لتعلم الفقه والنحو وعلم الكلام والفرائض والمنطق وغيره، وبرز في ذلك.
وفي السنة الثانية من إقامته بالزاوية كلفه شيخه بتدريس المبتدئين، في السنة الرابعة عينه مناوبا له في الدرس، في السنة الخامسة أمره بالتدريس في زاوية ابن أبي التقى قرب برج بوعريريج، وقام بمهمته أحسن قيام، وترك هناك أثرا طيبا وذكرا حسنا.
في نهاية السنة الخامسة اجتمع ثلاثة من أعيان أشراف الهامل هم: محمد زيان الشريف، إبراهيم بن الحاج، السيد أبو الأجدل بن عمر، بالشيخ أحمد بن أبي داود، وطلبوا منه السماح للطالب محمد بن أبي القاسم بالرجوع معهم إلى قريتهم ونشر العلم هناك، بإذن منهم فكان لهم ما أرادوا، وكتب الشيخ أحمد بن داود جوابا للشيخ يأمره بالتدريس ببلدته، وعاد الطالب إلى بلده وذلك سنة 1265 هـ = 1848م.
تأسيس الزاوية القاسمية بالهامل:
في سنة 1279هـ= 1862م شرع في بناء زاويته المعمورة على جهة الغرب من قرية الأشراف في سفح جبل يقال له "عمران"، فبنى منزلا للعائلة في غاية العلو والارتفاع محفوفا من كل الجهات بالعمارات، وبنى في جنبه من جهة المشرق حوشا يجلس فيه لإرشاد الخلق وتصريف أحوالهم، وتأكل فيه الطلبة والإخوان، وبيتا يطبخون بها التلامذة الطعام تسمى " النوالة"، وعمّر بلصقها مسجدا يصلي فيه الخمس مع خاصة تلامذته الملازمين له، يسمى بمسجد سيدي عبد القادر ويتلى فيه القرآن بمحضره في كل ليلة نحو الخمسة أحزاب، ويدرس به الحديث والنحو والتفسير ويقرأ فيه الموالد النبوية وتنشد فيه المدائح النبوية.
وعمل بلصق الجميع من كل جهة نحو خمسين مسكنا للمصالح الوقتية.
دخل زاويته ـ وكانت الزاوية الوحيدة الموجودة بالمنطقة ـ رفقة الأهل والإخوان أول محرم الحرام 1280هـ= 18 جويليت 1863م.
وفي سنة 1281هـ= 1864م شرع في بناء مسجد للطلبة والإخوان ولدرس الفقه وغيره، فجاء مسجدا عظيما في الاتساع والطراز.
وعمل مساكن للطلبة والإخوان خارجة عن منازله الخصوصية، فكانت نحو المائة مسكن وهي من عمل الطلبة والإخوان بحيث أنه من رغب في السكنى يبني دارا ويحبسها على الزاوية.
ومع اشتغاله بالخلق على كثرة أصنافهم لا يترك الدروس في علوم عديدة منها: الفقه، الحديث، التفسير، النحو، الكلام وغير ذلك.
أما الفقه من سنة 1279هـ= 1863م إلى سنة 1288هـ= 1871م يتولى درسه بنفسه، ولما تكاثرت عليه الأشغال فوّض التدريس إلى نجباء الطلبة.
وختم عدة وافرة من كتب الحديث المعتبرة ختمات عديدة كالموطأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم والجامع الصغير وشروح شمائل الترمذي وشرح الأربعين النووية وسيدي عبد الله بن أبي جمرة وشفاء القاضي عياض.... يسرد على التوالي نحو الثلاث كراسات بلا تعب ولا ملل، ولولا سآمة أهل المجلس أو ما يعرض من الحوائج أو أوقات الصلوات ما كان يقطع القراءة.
وذاعت شهرة الشيخ في المناطق المجاورة، فقصد الزاوية الطلبة من كل مكان من: المدية، تيارت، شرشال، سطيف، المسيلة، الجلفة.........
وتوافد على الزاوية الأساتذة والعلماء من جميع الجهات، وتحولت إلى مركز لقاء بينهم ومنتدى علمي ثقافي يؤمه خيرة علماء البلد. وصفها أحد الشيوخ فقال:"كانت الزاوية المعمورة محلا للعلماء العاملين".
وكان يرتادها في هذه الفترة ما بين 200 و300 طالب سنويا. يدرسهم 19 أستاذا على رأسهم الأستاذ نفسه.
من أعماله:
ـ في سنة المجاعة 1285هـ= 1868م (عام الشر) قام الشيخ بإيواء عشرات العائلات والإنفاق عليها.
ـ في سنة 1288هـ = 1871م، ساهم بمد ثورة المقراني بالرجال والسلاح، وبعد الهزيمة أحضر أبناء الزعيم المقراني، وحوالي ثمانين عائلة من الذين تضرروا من اضطهاد سلطات الاحتلال، وأقاموا بالزاوية معززين مكرمين، ولا يزال "حي المقارنة" بالقرية شاهدا على ذلك.
ـ قدم سنة 1304هـ= 1886م إلى زيارة شيخ المشايخ سيدي محمد بن عبد الرحمن وسيدي عبد الرحمن الثعالبي وأهل الله بحاضرة الجزائر، وتتلمذ له جل أهلها من علمائها وفضلائها، وكذا نواحيها كالمدية والبليدة ومتيجة وشرشال والحراش وتابلاط، وفي هذه الزيارة رمم ضريح الشيخ بن عبد الرحمن بالزليج والرخام.
في هذه الزيارة عرضت عليه السلطات الفرنسية الإقامة بالجزائر، وإنشاء مدرسة له، رغبة منها في مراقبته والسيطرة على تحركاته والحد من تأثيره على الأوساط الشعبية، بعد قضائها على مختلف الحركات الثورية، لكن الشيخ رفض طلبها، محتجا بأن بقائه بالجزائر سيؤدي حتما إلى المزيد من المشاكل، ويثير العديد من الهزات الاجتماعية فرنسا في غنى عنها.
وظل يتردد على الجزائر العاصمة كل سنة غالبا، آخرها السنة التي انتقل فيها إلى جوار ربه.
ـ اهتم رضي الله عنه بتعمير الأرض واستصلاحها وزراعتها، وذلك لتأمين مصدر رزق للزاوية، فاستصلح عشرات الهكتارات بوادي الهامل والمناطق المجاورة له، كمرحلة أولى، وبنى به السدود وشق السواقي ورفعها، وجعل كل ذلك وقفا على الزاوية يستفيد منه الطلبة والفقراء والمحتاجين، ثم بدأ في مرحلة ثانية بشراء الأراضي الزراعية في المناطق الأخرى مثل المسيلة والجلفة وتيارت والمدية تيزي وزو وغيرها من المناطق، وجعلها أيضا وقفا على طلبة العلم من رواد زاويته.
ـ أوقف أموالا وعقارات وبساتين على زوايا شيوخه في أولاد جلال، برج بن عزوز، آقبو، طولقة والجزائر العاصمة، على مقام محمد بن عبد الرحمن الأزهري، بل هو الذي بنى الحائط الذي يحمى المقبرة ويحيط بها.
ـ كان ? يدفع مرتبات دائمة لطلبة العلم والقرآن الكريم بالحرمين الشريفين ويساعد العلماء والشيوخ في ذلك، تشهد بذلك مراسلاتهم الكثيرة والمتعددة.
ـ في سنة 1307هـ= 1889م جدد بناء مسجد الأسلاف المشهورين بـ "حجاج الهامل"، محافظا على طرازه القديم.
ـ أنشأ أكثر من ثلاثين زاوية تابعة للزاوية الأم بالهامل.
وفاتـه:
كان ? في طريق عودته من الجزائر، أين جاءه جواب من عند تلامذته في بويرة السحاري، يخبرونه بحدوث هرج ومرج بينهم واستدعوه للقدوم عليهم ليجري الصلح بينهم كما هي عادته في نشر الأمن والعافية، فلبى دعوتهم وأجرى الصلح بينهم، وتوفي بعد ذلك عندهم على الساعة الثانية زوالا من يوم الأربعاء أول محرم الحرام 1315هـ= 2 جوان 1897. عن عمر يناهز 73 سنة. وأخبرت أن السجادة التي توفي عليها لا تزال الأسرة التي كان عندها تحتفظ بها إلى يوم الناس هذا، ورفضت منحها إلى شيوخ الزاوية القاسمية الذين طلبوها منهم.
وقد اشتهر على ألسنة الناس آنذاك أنه مات مسموما، وهو أمر لا نستبعده بالنظر إلى الأوامر التي جاءت من السلطات العسكرية بوجوب إخراج الرجل من الجزائر العاصمة لما أصبح يشكل خطرا على الأمن والاستقرار في المدينة بسبب كثرة الإخوان والمريدين، طلبت إخراجه وحددت أماكن إقامته في المدن التي ينزل بها ومدة إقامته، ولم تراع في ذلك كبر سنه ولا تدهور صحته.
دفن صباح يوم الخميس 2 محرم الحرام على الساعة العاشرة صباحا، وتولى الصلاة عليه الشيخ سيدي محمد. وحضر جنازته جم غفير من العلماء الأبرار والأتقياء الأخيار من أعيان البلدة وأفاضل الأمصار.
وكانت مدة إقامته بزاويته منذ بناها إلى توفاه الله نحو من سبع وثلاثين سنة، ودفن بمسجده بالهامل، وبنيت عليه قبة بمبلغ جسيم من المال سنة 1323هـ= 1904م إلا أنها سقطت سنة 1326هـ= 1907م وأعاد بنائها الشيخ محمد بن الحاج محمد.
مكانته:
بفضل مكانة الشيخ ومستواه وانتمائه إلى أهل البيت، أعطى الشيخ بعدا آخرا للطريقة الرحمانية، وامتد بواسطته تأثيرها إلى أبعد المناطق الممكنة.
جاء في إحدى التقارير السرية للضباط الفرنسيين: "... وشيئا فشيئا بدأ مقدموه بالتوغل في بلاد القبائل، وحتى إلى البلاد التونسية، وذاع اسم الشيخ محمد بن أبي القاسم، أكثر فأكثر".
ربطته علاقات ممتازة ـ دلت عليها المراسلات الكثيرة الموجودة بمكتبة الأسرة القاسمية ـ مع الأسر الثورية في الجزائر: المقراني، بوعزيز، الأمير عبد القادر، وكذا الأسر العلمية: أبناء أبي داود، أسرة محمد بن عزوز البرجي، أسرة علي بن عمر الطولقي، باش تارزي بقسنطينة، الحداد ببلاد القبائل، بن الحفاف بالجزائر العاصمة، الموسوم بقصر البخاري، غلام الله بتيارت...مما حير عقول الضباط الفرنسيين وأثار دهشتهم. كما عبروا على ذلك في تقاريرهم السرية التي كانوا يرفعونها دوريا إلى الحكومة العامة بالجزائر.
ترك ورائه ابنته الوحيدة "لالا زينب" والتي تولت مشيخة الزاوية بعده، وأدارت شئونها مدة سبع سنوات، واتبعت خطوات أبيها خطوة خطوة، ولم تحد عنها قيد أنملة، في التعليم والإرشاد، أتمت بناء المسجد، الذي بدأ بناؤه والدها.
بقلم: الدكتور عبد المنعم قاسمي مدير مركز القاسمي للدراسات والأبحاث الصوفية
www.kacimisoufisme.org
7 التعليقات :
جزاك الله خيرا على هذه الترجمة اخي الفاضل، وارضى اللهم عن سيدي محمد بن أبي القاسم الهاملي، وامطر على قبره الشريف شآبيب رحمتك وضوانك ومغفرتك بجاه الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه واله وصحبه وسلم تسليما.
مشكور اخي العزيز وكان الله في عونك في حفص الانسايب و ما
بارك الله فيك يا شيخ أنا من أحد أبناء الشرفة من مدينة قصر الشلالة بتيارت اللقب عبد الرحيم + حدبي
هل يوجد علاقه مع الهامل من قبيلة شمر او تشابه اسماء
جزاكم الله خيرا على هذه الترجمة التفصيلية و الميسرة التي عرفتنا بها على اشراف بلدنا و حفظكم الرحمان
جزاك الله خيراً وبارك الله فيكم ويحفظكم يارب العالمين
اخوكم الطيب صمادي اهل سرڨين. جزاكم الله خيرا
إرسال تعليق