من الأدعية المأثورة عن سيدي محمد بن عزوز البرجي رضي الله عنه:   اللهم ارحمني إذا وَاراني التُراب، ووادعنا الأحباب، وفَارقنا النَّعيم، وانقطع النَّسيم، اللهم ارحمني إذا نُسي اسمي وبُلي جسمي واندرس قبري وانقطع ذِكري ولم يَذكرني ذَاكر ولم يَزرني زَائر، اللهم ارحمني يوم تُبلى السرائر وتُبدى الضمائر وتُنصب الموازين وتُنشر الدواوين، اللهم ارحمني إذا انفرد الفريقان فريق في الجنة وفريق في السعير، فاجعلني يا رب من أهل الجنة ولا تجعلني من أهل السعير، اللهم لا تجعل عيشي كدا ولا دُعائي ردا ولا تجعلني لغيرك عبدا إني لا أقول لك ضدا ولا شريكا وندا، اللهم اجعلني من أعظم عبادك عندك حظا ونصيبا من كل خير تقسمه في هذا اليوم وفيما بعده من نور تهدي به أو رحمة تنشرها أو رزق تبسطه أو ضر تكشفه أو فتنة تصرفها أو معافاة تمن بها، برحمتك إنك على كل شي قدير، أصبحنا وأصبح كل شيء والملك لله، والحمد لله، ولا اله الا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير

سيدي محمد بن عبد الرحمن الجرجري قدّس الله سره

الشيخ الإمام والأستاذ الهمام الجامع بين الشريعة والحقيقة


وقد توجه إلى جامع الأزهر صغيرا، وتزوج في القاهرة، وكان شيخه سيدي محمد بن سالم الحفناوي المصري رضي الله عنه عالم زمانه، وفريد عصره وأوانه، فكرع من علومه الكسبية والوهبية ما جاد به الله تعالى عليه، ثم وجّهه إلى السودان لنشر الأوراد ونفع العباد، حيث أقام ست سنوات في دارفور يقرئ السلطان هناك، ونجحت دعوته في السودان نجاحا كبيرا، ثم أمره بالعودة إلى مصر ومن ثمّة صرفه إلى وطنه المفدى الجزائر لبثّ العلم وتربيــة الخَلق، بعد أن دعا له دعـوات ظهرت فيـه أسرارهـــا وسطعت عليه أنوارها.


فكان الشيخ الإمام والأستاذ الهمام الجامع بين الشريعة وطريقتها والولاية وحقيقتها، وصار لا يخاطب الناس إلا بما يفهمون مراعاة للحال والمقام، فانتفع بإرشاده الخواص فضلا عن العوام، وانجذب إليه أهل التل والصحراء، ودخل العاصمة فاحتفل به علماؤها وكانوا قد امتلأت أسماعهم من أخباره.
واشتهر أمره في القطر الجزائـــري، وانتـشر ورده بين النــاس إلى أن توفـي قـدّس الله سره سنــــــة 1208 هـ (1794م) في آيت إسماعيل ودفن بها ونقله أهل الجزائر خفية ذات ليلة إلى ضريحه قرب الحامة ببلوزداد، وصار يدعى “بوقبرين” رضي الله عنه.


ولم يترك ولدا من صلبه وإنما أولاده مشايخ طريقته الرحمانية، وكلهم أبا عن جدّ أقطاب كبار، وهم كثيرون في الجزائر وتونس والسودان وغيرها، منهم سيدي علي بن عيسى وتلامذته وتلامذتهم الكبار سيدي محمد أمزيان بن الحداد، وسيدي محمد بن أبي القاسم البوجليلي، والشيخ علي، وغيرهم نحو الأربعة والعشرين وليا، ومنهم سيدي عبد الرحمن باش تارزي شيخ سيدي محمد بن عزوز البرجي جد الشيخ المكي بن الشيخ سيدي مصطفى بن عزوز وتلامذته القطب سيدي علي بن عمر، وسيدي عبد الحفيظ الخنقي، وسيدي مبارك بن قويدر، والشيخ المختار بأولاد جلال وسيدي الصادق، وتلاميذه سيدي علي بن عمر مثل سيدي خليفة أستاذ سيدي علي بن الحملاوي، وسيدي مصطفى بن عزوز، وتلميذه سيدي علي بن عثمان وتلميذ الشيخ المختار سيدي الشريف ابن الأحرش، والقطب سيدي محمد بن أبي القاسم الشريف الهاملي، وتلامذته سيدي المكي بن عزوز وتلميذ الشيخ الصادق سيدي الحاج السعيد بن باش تارزي، والشيخ الحاج المختار وغيرهم من المشايخ الرحمانيين الذين يعدّون بمثابة نجوم زاهرة تسطع في سماء الجزائر وفضائها الثقافي.


وللشيخ محمد بن عبد الرحمن رسائل كثيرة في تعليم الخلق وإرشادهم إلى طريق الخير والحق.. ولكنها مع الأسف لم تطبع.
ومعلوم أن سجّل الطريقة الرحمانية في محاربة الاحتلال الفرنسي يرصّع بأحرف من نور تاريخ الجزائر كما هو شائع، وما تزال الزوايا الرحمانية المبثوثة في القطر الجزائري وغيره تشع بأنوارها وتسطع بأسرارها، ويعمّ نفعها البلاد والعباد.
فاللـهم أفـض على القطب الربّـاني سيــدي امحمد بـن عبـد الرحمن من كرمـك ووجــودك ما يرضيه وفوق الرضى ومتعنا بأسراره وأعد علينا من بركاته،آمين بجاه سيدنا الأمين عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأزكى التسليمات.


بقلم:

بلقاسم أبو محمد
تكملة الموضوع

ترجمة سيدي أمحمد بن عودة قاهر ألإسبان


زاوية سيدي محمد بن عودة


سيدي أمحمد بن عودة الذي قهرا ألإسبان في تنس و مزغران


اسمه و نسبه

اسمه الكامل هو أمحمد بن يحي بن عبد العزيز و يكنى بسيدي امحمد بن عودة، نسبة إلى مربيته عودة بنت سيدي امحمد بن علي المجاجي المعروف بابن آبهلول (بلدة سيدي امحمد بن علي حاليا بولاية غليزان)، صاحب زاوية مجاجة (قرب بلدة تنس حاليا ولاية شلف)التي كانت مركزا للمجاهدين في سبيل الله

أما نسبه الشريف فهو حسب المشجّرة المنقولة من ضريحه،

« سيدي امحمد بن يحي بن عبد العزيز بن سيدي علي بن يحي بن راشد بن فرقان بن حسين بن سليمان بن أبي بكر بن مومن بن محمد بن عبد القوي بن عبد الرحمن بن إدريس بن إسماعيل بن موسى الكاظم بن جعفر الصّادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي كرّم الله وجهه و بن فاطمة الزهراء بنت محمد رسول الله صلى الله عليه و سلّم»

لاحظ الاختلاف الموجود مع المشجرات الأخرى في سقوط اسم موسى أبو إدريس و ابن إسماعيل بن موسى الكاظم (المشجر على ما يبدو منقول حفظا)



بوابة الزاوية

مولده و نشأته

ولد سيدي أمحمد بن عودة في شهر رجب عام 972 هـ بنواحي وادي مينا (بلدة سيدي أمحمد بن عودة حاليا ولاية غليزان) حيث تربى و ترعرع في حضن والده سيدي يحي الأصغر و تعلم القراءة و الكتابة على يديه، و عندما شب سيدي امحمد دفع به والده إلى زاوية مجاجة فتتلمذ علي يدي الشيخ سيدي أمحمد بن علي المجّاجي و أخذ عنه التفسير، الحديث، الأصول و المنطق و البيان كما أخذ عنه في الفقه و التوحيد و غيرها إلى غاية استشهاد شيخه سنة 1008 هـ و ما لبث أن غادر الزاوية باتجاه مسقط رأسه ثم انتقل إلى الصحراء الجزائرية، فأخذ عن الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد الملقّب بسيدي الشيخ و غيره من العلماء

و قد كان من نتيجة السفر و التنقل بين الزوايا هو تضلع سيدي أمحمد في شتى العلوم من حديث و تفسير و فقه و غيرها كما أضفى على هذا التضّلع طابع الزهد و سلوك المتصوفين،

و قد شهد أحد تلاميذه على ذلك

« سمعت منه من المعرفة بالله تعالى و كذا سمعت منه من المعرفة بأنبياء الله و رسله الكرام عليهم افضل الصّلاة و أزكى السّلام فتحسب به أنّه كان مع كلّ نبيّ في زمانه و من أهل عصره و أوانه، و كذا سمعت منه بالمعرفة من الملائكة الكرام و اختلاف أجناسهم و تفاوت مراتبهم ما كنت أحسب أن البشر لا يبلغون إلى علم ذلك، و لا يتخطون إلى ما هناك و كذا سمعت منه من المعرفة بالكتب السماوية و الشّرائع النبوية سالفة الأعصار المتقدّمة على مرور اللّيالي و النّهار، و تحققت به أنّه سيّد العارفين و أولياء أهل زمانه أجمعين، و كذا سمعت أنّه بمعرفة اليوم الآخر و جميع ما منه من الحشر و النّشر و الصّراط و الميزان و النّعيم، و غير ذلك ما تعرفه إذا سمعته يتكلّم في شهود المعرفة و عرفان اليقين، فأيقنت حينئذ بولايته العظمى...»



مقامه الشريف

اشتغاله بالتّدريس

بعد أن ارتوى سيدي أمحمد بن عودة من المعارف المختلفة عاد إلى مسقط رأسه حيث أسس زاويته التّي أصبحت مركز إشعاع ديني و إصلاح اجتماعي، و جهاد ضد الأعداء، ومأوى لإطعام الفقراء و عابري السّبيل و تتكون من خيمتين

أكسبته هذه الزاوية شهرة كبيرة، فكان له أتباع كثيرون يحترمونه و يقدّرونه حتّى اصبح يلقّب بمهدي زمانه لزهده الشّديد فقد كان من عادته مكابدة الّيل بالقيام و النّهار بالصّيام و لم في الدنيا زوجة و لا ولدا قط

و بلغ من زهده في الدنيا أن حفر مخبأ تحت الأرض، كان يخلو للعبادة فيه و لا يزال هذا المخبأ ليومنا هذا و يسمّى « العبادة »

جهاده و وفاته

اشتهر سيدي امحمد بن عودة بطولته في مكافحة الإحتلال الإسباني في شواطىء تنس، مزغران، و المرسى الكبير بوهران

فمنذ كان تلميذا ساهم بإطعام المجاهدين بثغر تنس، كما رفع لواء الجهاد لرفع الحصار عن مدينة مستغانم التي حاصرها الرّوم

و كانت له نوبة للحراسة و الرّباط على ساحل البحر بوهران لحراسة المدينة من الإسبان. و قاد سيدي امحمد عدة معارك ضد الإسبان و ذلك ما بين سنة 1517 و 1580 م

توفي سيدي أمجمد بن عودة بمرض عضال عام 1034 هـ

تخليدا لهذا الولي الصالح أمر الباي التركي محمد الكبير بناء مشهد على ضريحه و أوصى بحرمته و عدم التعرّض لمن لجأ إليه بحال من الأحوال. و قد عفا الباي عن كثير من خصومه الذين فرّوا إلى هذا الضريح

و قد أقام أتباعه بعد ذلك حفلا كبيرا استمّر إلى يومنا هذا و يسمّى وعدة سيدي أمحمد بن عودة في الأسبوع الأخير من سبتمبر

رحمه الله و ألحقنا به مؤمنين غانمين
تكملة الموضوع

التصوف في الجزائر بقلم: عبد المنعم القاسمي الحسني ج2




عن التصوف والصوفية في الجزائر 2/2
مقاربة موضوعية (2/2)

بقلم: عبد المنعم القاسمي الحسني

دور التصوف بشكل عام:

احتل التصوف والصوفية مكانة هامة في حياة المجتمع الجزائري، منذ البداية إلى يوم الناس هذا، وذلك راجع في تصوري إلى الدور الكبير الذي قام به التصوف في حياة المجتمع الجزائري،
وإذا أردنا معرفة وحصر الأدوار التي قام بها الصوفية في الجزائر فسنجدها كثيرة متعددة:


ـ الدفاع عن الدين والوطن: وهو من أهم الأدوار التي قام بها، وذلك في ظل ظروف سياسية هامة أدى فيها التصوف دور البديل والمنقذ والملجأ لمختلف طبقات الشعب التي لم تجد بغيتها وضالتها إلا في الطرق الصوفية وزواياها المنتشرة في كل مكان، ومن أهم الأحداث السياسية التي يمكن لنا رصدها:


ـ استمرار تدهور السلطة المركزية:


خلفات انهيار الدولة الموحدية، وهي تلك الدولة التي استطاعت أن تقف عالية الرأس ـ وذلك بفضل قوة أسطولها ـ أمام مطامع الأوربيين، ولكن بعد سقوطها وتفكك السلطة بعد ظهور الدويلات، فتغيرت جذريا الوضعية.


ـ اشتداد الأخطار الخارجية، الحملات الصليبية الإسبانية والبرتغالية التي عرفتها سواحل الجزائر طيلة القرون 15 و16. وهي المعادلة الصعبة التي وجد الصوفية أنفسهم ضمنها فحاولوا أن يقفوا موقف الوسط للدفاع، والحفاظ على مصالح الأمة.
ففي حالة ضعف السلطة الحاكمة أو انهيارها وغيابها، قاد الصوفية جموع الشعب إلى الدفاع عن الدين والوطن من الخطر الخارجي، وكما نعلم فإن من أسباب انتشار الربط والزوايا على طول السواحل الجزائرية، هو مقاومة الغزو الصليبي المستمر، ومن الأدلة على هذا الدور رسالة الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في الدعوة إلى الجهاد، كما أن زاويته كانت مقرا للاجتماعات والاستعداد لمواجهة العدو، وظل ذلك دأب الجزائريين إلى غاية القرن 19.
وكذا زاوية الشيخ التازي بوهران التي كانت تمثل قاعدة خلفية مليئة بمختلف أنواع الأسلحة، استعملها المجاهدون في صد عدوان الصليبيين. ومحاولة الولي الصالح الحسن أبركان رد حملة السلطان الحفصي أبي فارس عبد العزيز على تلمسان سنة 827هـ.
وبعد سقوط الدولة بعد الاحتلال، كانت الطرق الصوفية هي التي تولت المبادرة، على الرغم ما يقال هنا وهناك، من أن مقاومة الأمير لم تكن صادرة عن طريقة، فانا لم نجد تفسيرا لالتفاف الجموع والقبائل حول شخص الشيخ محي الدين، الذي كان يمثل طريقة عرفت بتغلغلها في الأوساط الشعبية، ونحن نعلم أن تأثير الشيخ محي الدين لم يكن مصدره جاه أو سلطة أو مال، فلم يكن يمثل أي منها، ولم يكن رمزا إلا للطريقة القادرية التي تشرف بخدمتها، وبخدمة زاوية جده الشيخ مصطفى لمدة سنوات، وعرف بتصوفه وزهده، وعلمه وحلمه.
وتستوقفنا أيضا مقاومة الزعاطشة بالزيبان التي استغرقت من سبتمبر إلى نوفمبر من سنة 1849، حيث صمد رجال هذه القبيلة بكل شجاعة وعز، وزعيمهم الشيخ عبد الحفيظ الخنقي، وهو أحد الشخصيات التابعة للطريقة الرحمانية، كما نلاحظ الوجود الديناميكي والمستمر لرجال الطرقية في مختلف الثورات، أولاد سيدي الشيخ، ثورة 1871 الرحمانية ببلاد القبائل، ثورة الشيخ بوعمامه 1881.. حتى أن السيد أوكتاف ديبون ـ المفتش العام للبلديات الممتزجة بالجزائر ومن مؤلفي كتاب الطرق الدينية في الجزائر 1897 ـ يؤكد في تقرير بعث به إلى لجنة مجلس الشيوخ المكلفة بالجيش والتي كان يرأسها "كليمانصو": " إننا سلفا نجد يدا مرابطية وراء كل هذه الثورات التي يقوم بها الأهالي ضدنا". ويقول المؤرخ الفرنسي مارسيل إيميري: " إن معظم الثورات التي وقعت خلال القرن التاسع عشر في الجزائر كانت قد أعدت ونظمت ونفذت بوحي من الطرق الصوفية، فالأمير عبد القادر كان رئيسا لواحدة منها وهي الجمعية القادرية، ومن بين الجمعيات المشهورة التي أدت دورا أساسيا في هذه الثورات: الرحمانية السنوسية الدرقاوية الطيبية".


يذكر حمدان خوجة في كتابه المرآة أن شيوخ الطرق الصوفية هم الذين أمروا جميع المواطنين الجزائريين بالتعبئة العامة والدفاع عن مدينة الجزائر العاصمة بعد تخلي الأتراك عن هذه المهمة.
ويذكر حمدان خوجة في كتابه المرآة أن شيوخ الطرق الصوفية هم الذين أمروا جميع المواطنين الجزائريين بالتعبئة العامة والدفاع عن مدينة الجزائر العاصمة بعد تخلي الأتراك عن هذه المهمة.


ـ كشف الضابط دي نوفو في كتابه الإخوان الصادر سنة 1845 عن الدور الرئيس الذي أدته الطرق الصوفية في مقاومة الاحتلال، وتحدث النقيب ريتشارد عن ثورة الظهرة التي قامت سنة 1845 مبرزا الدور المهم الذي قامت به الطرق الصوفية في هذه الثورة.
ـ ومن تقرير للمفتشية العامة حرر بالجزائر سنة 1864 يعترف بالدور الخطير الذي تقوم به الطريقة الدرقاوية: " الدرقاوية كانوا معادين لنا كل العداء لأن غايتهم كانت سياسية بوجه خاص، أرادوا ان يشيدوا من جديد صرح امبراطورية إسلامية ويطردوننا، إن هذه الطريقة منتشرة جدا في الجنوب ومن الصعب جدا مراقبتهم، لقد كانت ندوات الإخوان سرية وكانت أغلبية رؤسائهم معروفة".
أصبحت الزوايا مع مرور الزمن والتحاق العديد من أبناء الشعب بها، مراكز إشعاع ونشاط فكري عظيمين، بل أحيانا الملجأ الوحيد للتعليم، وتبادل الأفكار والنقاش، وكذلك الإنتاج.


ـ تعليم وإرشاد، وتوجيه:


وأصبحت الزوايا مع مرور الزمن والتحاق العديد من أبناء الشعب بها، مراكز إشعاع ونشاط فكري عظيمين، بل أحيانا الملجأ الوحيد للتعليم، وتبادل الأفكار والنقاش، وكذلك الإنتاج.


ـ دور اقتصادي:


أصبحت الزوايا تشرف بصفة مباشرة على الاقتصاد المحلي والإقليمي، بل على بعض الحركات التجارية الحساسة، وقد تجسد ذلك كله بواسطة امتلاك الأراضي، وجمع التبرعات التي تصل من المريدين، وكذا الزكاة التي كانت تمثل مصدرا هاما للمال بالنسبة لهذه المؤسسات الدينية.

الدور الاجتماعي للتصوف في الجزائر:

يقول أحد الباحثين المعاصرين متحدثا عن الدور الهام الذي أدته الصوفية في المجتمعات التي وجدت بها: "ونولي وجهتنا نحو بؤرة المجتمع وتفاعلاته اليومية نلتقي بالفعل بالدور الكبير الذي لعبته التنظيمات الصوفية كوثبة من ((الوثبات الحيوية)) التي تعبر عن حركات المجتمع وتطوره ((الذاتي))".


ونظرا للخدمات الجليلة التي قدمها أهل التصوف للمجتمع الجزائري، أصبحت العامة تعتمد اعتمادا كليا عليهم لمواجهة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تحل بها من حين لآخر، وهذا نظرا لعجز الدولة أو السلطة على التكفل بحل مشاكل الناس، ومع مرور الزمن ترسخت قناعة لدى العامة أن الصوفية هم أقدر الناس على حل المشاكل وتقديم المساعدات للطبقات المحرومة، يقول الدكتور الجيلالي صاري:"...تدريجيا وبانتظام احتلت الطرقية مكانة بارزة في الحياة اليومية، بل أصبحت في أماكن عدة وفي مناطق كثيرة المرجع الأول والأخير للجماهير"( ).


لقد كانت غاية الطريق الصوفي هي" غاية خلقية تتمثل في إنكار الذات والصدق في القول والعمل والصبر والخشوع ومحبة الغير والتوكل وغير ذلك من الفضائل التي دعا إليها الإسلام"...


لقد كانت الزوايا منذ تأسيسها مركزا لوحدة القبيلة، ملجأ للفقراء والمساكين ومحطة لعابري السبيل ومأوى لليتامى، كما أنها كانت قبلة للمتخاصمين من أجل فض نزاعاتهم، ومركز إشعاع يحافظ على تقاليد المجتمع وعاداته وأصالته في مواجهة السياسة الاستعمارية الرامية إلى طمس معالم المجتمع الجزائري العربي المسلم.


وسنتناول هذه الوظائف بالشرح والتحليل:


أولا: مركزا لوحدة القبيلة:


يرى كثير من الباحثين أن الزاوية في الريف قد قامت بدور عظيم من الناحية الاجتماعية فقد ساهمت "في فض النزاعات والخصومات على الأرض والتحكيم بين المتنازعين في القبيلة والتدخل لدى السلطة الحاكمة لرفع مظلمة ودفع مغرم على فرد أو جماعة ". الزاوية كانت مركز الوحدة القبيلة، والتوحيد بين القبائل الأخرى وفك الخصومات والنزاعات بينها، وخبط النظام العام.
وأصبحت الزاوية مع مرور الزمن معلما يلتف حوله رجال القرية وتدور عليه حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ورمزا اكتسب قوته من قوة شخصية الشيخ والتفاف أفراد قبيلته حوله. ووجدوا فيه واجهة ومظهرا يعبر عن تشوفهم لمركز الريادة والقيادة في المنطقة..


ثانيا: فك الخصومات:


من الأدوار الأساسية التي أدتها الزوايا منذ نشأتها: فك الخصومات والنزاعات بين القبائل، وإصلاح ذات البين والتوحيد بينها. فكثيرا ما تحدث الخصومات بسبب الاختلاف على الماء أو الأرض أو ثأر بين القبائل المتنازعة، فلا تجد لها حلا إلا اللجوء إلا شيوخ الطرق والصوفية لفض النزاع، وهو موقف نابع من حاجة الريفي أو البدوي لتقديره لرجال الدين أو الأشراف، خصوصا إذا اشتهروا بالصلاح والتقى وهي ظاهرة لمسناها مع انهيار الدول الثلاث في المغرب العربي، وسيادة الفوضى والاضطراب في الحكم، وحتى بعد دخول العثمانيين وجدنا هذه الظاهرة بل ازدادت انتشارا وتوسعا.


ولقد سعت السلطات الفرنسية إلى استبدال القوانين الإسلامية في المجال القضائي، بالقوانين الفرنسية، ففي 18 فيفري 1841، صدر أمر من السلطات يتضمن التنظيم القضائي في الجزائر، انتزعوا بموجبه من القضاة المسلمين البت في الأمور الجزائية، وأصبح القضاء الإسلامي مقتصر على الأحوال الشخصية، وحتى هذه الأخيرة حاولت السلطات الفرنسية إخضاعها للقوانين الفرنسية وإلغاء الاحتكام للشريعة الإسلامية من خلال قانون " سناتور كونسيلت".


أمام هذا الوضع وفي ظل هذه الظروف أصبحت الزوايا ملجأ للسكان من أجل فك نزاعاتهم وحل خصوماتهم، سواء كانت بين الأفراد أو بين القبائل والأعراش، حيث يذكر أن قضايا الأحوال الشخصية أو قضايا الجنايات والخلافات على الأراضي، كان يفصل فيها بالزاوية، ويحتكم فيها إلى شيخ الزاوية، وأصبحت الزاوية المرجع الأعلى في القضايا والمحكمة العليا بالنسبة للأفراد والقبائل في تلك الفترة، وهو الأمر الذي لفت انتباه الكاتب الفرنسي Lehraux Leon، خلال زيارته إلى الجزائر حيث يقول: " تعتبر الزاوية مقرّا للقضاء، فهي تختصّ بالفصل في القضايا المدنيّة والجنائيّة، حيث كانت تحلّ من قبل الشيخ بحكم مكانته العلميّة والاجتماعيّة وما هو مشهود عنه من عدل وحكمة وعلم، ويكون فصله إمّا بالصلح والتراضي، أو بالتعويض، أو الفدية، فالقضايا المدنيّة متمحورة في النزاعات حول الأراضي، والمباني أو الميراث، والقضايا الجنائيّة تتمثّل في جرائم القتل وتدخّل الأعراش للثأر. كما تعتبر الزاوية مقرا لعقد القران، والتعاقد بين الأفراد".


ثالثا: الشفاعات:


فقد كان شيخ الزاوية يسعى لقضاء حوائج الناس لدى السلطة ويستغل مكانته في هذا الباب، وكثيرا ما تجاب رغباته وطلباته من طرف السلطات حفاظا على شعرة معاوية، ولحاجتها للنظام والهدوء لكي لا تثير الشعب عليها، فوجب أن يكون هناك واسطة بينها وبين الأهالي.
فقد كان يقوم بدور حيوي في المجتمع الذي فتكت به الأزمات، ونستطيع أن نطبق عليه دور الصوفي:" الذي يحاول حل الأزمة وتعويض المأزومين بمعوضات مادية وروحية تحقيقا لتوازن مجتمعه".


استطاع الصوفية التوفيق بين المحافظة على النقاء الروحي والخلقي والسيطرة على المجتمع ككل، ونحن نعلم مدى صعوبة هذا الأمر واستحالة تحقيقه في الغالب. إذ غالبا ما نضحي إما بالنقاء الروحي والخلقي إما بالسيطرة على المجتمع، ويندر أن الأمران لنفس الشخص وفي نفس الفترة والمكان طبعا.


استطاع الصوفية التوفيق بين المحافظة على النقاء الروحي والخلقي والسيطرة على المجتمع ككل، ونحن نعلم مدى صعوبة هذا الأمر واستحالة تحقيقه في الغالب. إذ غالبا ما نضحي إما بالنقاء الروحي والخلقي إما بالسيطرة على المجتمع، ويندر أن الأمران لنفس الشخص وفي نفس الفترة والمكان طبعا.


نجحوا في التأثير على مجتمعاتهم، والحفاظ على سلوكهم الإنساني المحدد ضمن المبادئ الشرعية الإسلامية.


رابعا: كفالة اليتامى والأرامل:


من الآثار السلبية للاحتلال الفرنسي كثرة الأرامل والأيتام، وذلك بسبب انتشار المجاعات من حين لآخر، وكثرة الأمراض التي كانت تصيب أفراد المجتمع الجزائري، وعدم توقف الثورات الشعبية طيلة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وكثرة الأمراض الفتاكة، نظرا لانعدام الرعاية الصحية، وتدهور الظروف المعيشية للمواطنين.
وقد أولت الزوايا اهتماما كبيرا بالأيتام من خلال إيوائهم والتكفل بهم وبحاجياتهم، ولم تكن الزاوية تكتفي بتوفير المأوى والمأكل لليتامى فقط، بل كانت تهتم بتربيتهم وتعليمهم وتسمح لهم بتولي المناصب العليا الخاصة بتسيير الزاوية حيث يذكر أم أفرادا من أسرة المقراني قد عينوا كمقاديم في الزاوية.


وقد عبر أحدهم عن كل هذا بقوله: "ترى بالقرب من الزاوية جمعا من كل الأعمار، أطفال بؤساء عراة، أمهات تظهر عليهم مظاهر الفقر، وشيوخ جالسين على تل صغير، هذا هو الجو العائلي بالنسبة للأسر التي تطلب الصدقة في هذا المكان الكريم".


خامسا: المساعدة في أوقات الشدة:


ففي خلال أعوام 1865 ـ 1868م، تواصل القحط والجفاف، مما أدى إلى انعدام المواد الغذائية، والحبوب للناس، وانعدام العلف للحيوانات، وهنا تدخلت الزوايا فآوت الكثير من العائلات المتضررة من هذا الجفاف.
وقد بلغ الذروة سنة 1869 حيث حصلت المجاعة الكبرى التي لم تعرف لها البلاد مثيلا على مدى التاريخ، فمات من جرائها الآلاف، ولم تفعل السلطات الفرنسية شيئا، مما اضطر السكان إلى للجوء إلى الزوايا والمساجد، وكثير من سكان الهضاب العليا هاجر نحو مدن الشمال، ومنعهم الأوربيون من كسب قوتهم، ووضعوهم في محتشدات عامة: مليانة، الأصنام، غليزان. وهنا تدخلت الصوفية وأنقذت الكثير ممن كانوا على وشك الهلاك، وقد شاركت معظم الزوايا في هذه العملية.


سادسا: الحفاظ على عادات المجتمع:


ساهمت الزوايا من خلال مختلف الأنشطة في الحفاظ على عادات وتقاليد المجتمع الجزائري فقد امتاز المجتمع الجزائري بشدة تماسكه وتآزره، خاصة في مواجهة الأزمات...


ـ التويزة: تعاون كافة أفراد المجتمع في القيام بأعمال ذات منفعة وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونواعامة، دون مقابل، تطبيقا لقوله تعالى: منها: ترميم وإعادة بناء السدود، وكان يتم الإعلان عن موعدعلى الإثم والعدوان إقامة التويزة بمسجد الزاوية عقب الصلوات الخمس، ويجدر الإشارة هنا إلى أن الزاوية نفسها بنيت واستكملت أغلب مرافقها بواسطة أعمال التويزة. رسالة الشيخ المؤسس في جواز الإفطار في رمضان للأعمال التويزة.
ـ الاحتفالات الدينية: لإحياء المناسبات والأعياد الدينية، المولد النبوي الشريف، ليلة القدر، ختم البخاري، ختم المختصر الخليلي.
ـ الاحتفالات الخاصة بموسم الحج: وقد كانت الزاوية تسهر على توفير المال لبعض الحجاج، وقد كلفت الشيخ عبد العزيز الفاطمي، بمرافقة الحجاج من الهامل إلى البقاع المقدسة، وقد كان الحج يتطلب أموالا باهظة، وتكاليف مرتفعة، وينطلق ركب الحجاج من الزاوية بعد توديعهم للشيخ الذين يطلبون منه الدعاء لهم وتيسير حجهم، وعند عودتهم أول مكان ينزلون به هو مقر الزاوية، حيث يسلمون على الشيخ ويتبركون به، ثم ينطلقون إلى أهاليهم. وهي عادة لا تزال موجودة إلى يومنا هذا بحمد الله.


ـ من تقرير سلطات الاحتلال: " في مختلف المناسبات والأعياد الدينية، تأتي أيضا أعداد كبيرة من الزوار والمريدين، من بعيد، لحضور الاحتفالات بعيد الفطر، عيد الأضحى، عاشوراء، والمولد النبوي والذي تميز عن غيره من المناسبات، توزع فيه الصدقات والأموال على الفقراء."


وتكون هذه الزيارات السنوية في فصلي الخريف والربيع. تماشيا مع عادات الطريقة الصوفية.


ويتضح لنا من خلال هذا العرض أن التصوف ورجاله قد أدوا ما عليهم من واجب تجاه دينهم ووطنهم ومجتمعهم الذي عاشوا فيه وتفاعلوا معه، مع قضاياه، مشاكله، اهتماماته، بل كانوا يمثلون صوت الشعب وضميره الحي في جل الفترات والعهود المتعاقبة، فقد نادى المتصوفة بالحرية عاليا، نادوا بالثورة على الأوضاع، نادوا بالتغيير، مارسوا حق تغيير المنكر الذي منحتهم إياه الشريعة الإسلامية.
لو لم يقوموا بواجبهم تجاه المجتمع على أكمل وجه، لما وجدنا الناس تقبل عليهم زرافات ووحدانا، في حياتهم وحتى بعد انتقالهم إلى الدار الآخرة، ممثلا ذلك في زيارة الأضرحة، وهي العادة التي درج عليها المجتمع الجزائري منذ مئات السنين.
خدموا الدين والأمة بالرغم من الحصار والمضايقة والتهديد والتشريد والسجن والمتابعة، حياتهم كلها جهاد ونضال واستبسال في سبيل الدفاع عن القيم والمبادئ والدين والوطن.

النتائج:


- التخفيف من معاناة الشعب الجزائري، وذلك من خلال التكفل بالفقراء والمساكين واليتامى والأرامل.
ـ الحفاظ على تماسك المجتمع الجزائري ووحدته، حيث كانت تجتمع بالزاويا مختلف الأعراش والقبائل، من مناطق مختلفة، فتنمحي بذلك الفوارق الجهوية.
ـ تمكنت من قطع الطريق على كافة الجمعيات التبشيرية والتي كانت تتخذ من النشاط الاجتماعي وسيلة لتحقيق مآربها التنصيرية، خاصة اتجاه اليتامى من أبناء هذا الشعب.
ـ لقد عملت الزوايا من خلال نشاطها على تنظيم العلاقات بين مختلف شرائح المجتمع وتدعيم عملية التكافل بينها، وقد كانت تستقبل الأموال من الأغنياء وتصرفها على الفقراء.
ـ تمكنت من انتشال العديد من اليتامى والمشردين وتكفلت بهم وكونت منهم علماء صالحين، ساهموا بفعالية في خدمة مجتمعهم.
ـ مثلت الزوايا قلاعا حصينة في وجه المشاريع الاندماجية التي سعى الاستعمار الفرنسي إلى تطبيقها بأرض الجزائر المجاهدة.

المصدر: موقع الشهاب للاعلام
تكملة الموضوع

الشيخ محمد بنعزوز القاسمي الحسني: 1324/ 1404هـ

صورة قديمة لزاوية الهامل "بوسعادة"
ولد سنة 1324هـ= 1906م ببلدة الهامل. والده هو الشيخ الحاج المختار بن الحاج محمد الشريف الهاملي، المشهور بالعلم والصلاح، والذي تولى مشيخة زاوية الهامل بعد وفاة أخيه الشيخ سيدي محمد سنة 1331هـ= 1913 وتوفي 1914 فترك ابنه صغيرا.
أمه الولية الصالحة كريمة بيت العلم والصلاح: السيدة فاطمة بنت الشيخ سيدي أبو القاسم الديسي المعروف بـ"ابن عروس"، وهو والد الشيخ أبو القاسم الحفناوي.
نشأ المترجم له على حب طلب العلم والحرص عليه، فحفظ القرآن وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، وبعد وفاة والده تولى تعليمه شيخ الجماعة بالزاوية الشيخ العلاَّمة سيدي محمد بن عبد الرحمن الديسي، صاحب التآليف الجليلة والمؤلفات المفيدة، فأخذ عنه متن الأجرومية وكان أول ما سمعه منه، ومتن الأزهرية ومتن القطر ومتن الألفية ثم متن الجوهرة، وهذا كله بالمسجد القاسمي، وتولى تدريسه ببيته لما لمس فيه من العناية التامة بالعلم والمعرفة، وحب الإطلاع والاستزادة، فأخذ عنه تفسير القرآن للطبري وتفسير الجلالين، ومن كتب الحديث جامع الصغير للسيوطي والشمائل للترمذي، وفي السيرة كتاب ابن هشام، وكما أخذ عنه كتاب الصلاة من مختصر خليل وعلم القراءات.
كما تتلمذ على الشيخين سيدي أبو القاسم القاسمي وسيدي أحمد القاسمي، فيقول عنهما: "وفي فصل الشتاء من كل عام أسمع من الشيخين أبو القاسم وأحمد قه مالك ".
ومن الذين أخذ عنهم شقيقه الشيخ سيدي محمد المكي القاسمي، ويقول عنه:"وهو ولي نعمتي في كل ما علمته"، ومن أساتذته أيضا الذين نال عنهم خاله الشيخ الحفناوي الديسي.
وفي سنة 1344هـ= 1926م ارتحل إلى جامع الزيتونة لمواصلة رحلته العلمية، فألفى المستوى التعليمي فيها هو نفسه الموجود بالهامل، وهو دليل آخر على مكانة زاوية الهامل العلمية، وبالزيتونة أنهى دراسته العالية عل أيدي الأساتذة الجلاء: الطاهر بن عاشور، محمد بن القاضي، عثمان بن الخوجة، محمد الزغواني، بلحسن النجار ومحمد العلمي الفاسي.
في تونس لازم شيخه الشيخ سيدي أحمد الأمين بن عزوز البرجي، وأخذ عنه علوما جمة وفوائد عزيزة خاصة في علم التصوف.
بعد إقامة سنة بالديار التونسية عاد الشيخ بنعزوز إلى بلده الهامل، فألفى كرسيه لم يشغل واستبشر به الطلاب خيرا، واتسعت حلقات الدرس وتكاثر عليه الطلبة من كل حدب وصوب.
في تلك الفترة عرفت الزاوية إقبال عدد كبير من العلماء والمصلحين، وعقدت بها المحاضرات والندوات العلمية فكان الشيخ بنعزوز من أبرز أعلام ومنشطي هذه الحركة العلمية المباركة.
لم يقتصر الشيخ على التدريس بالزاوية بل حوَّل مسكنه بـ"تغانيم" إلى ناد علمي فكري ثقافي تجتمع فيه نخبة من العلماء والأساتذة وطلبة العلم، ومن الذين زاروا هذا المقر الشريف: الشيخ أحمد الأمين والشيخ الكتاني والشيخ الحسين القفصي والشيخ الحجوي الفاسي، عمر بري، الحفناوي، الإبراهيمي، عابد الجلالي، نعيم النعيمي وغيرهم كثيرون من أهل العلم والمعرفة.
اعتنى الشيخ في هذه الفترة عناية كبيرة بجمع الكتب والمخطوطات وكون مكتبة زاخرة، احتوت على أنفس المخطوطات والمؤلفات، حيث ضمت حوالي 800 مخطوط ناهيك عن المطبوعات. وقد كان من أحل الأوقات لديه وأحبها إلى نفسه حين ينصرف إلى مكتبته العامرة قارئا وباحثا ومستنيرا.
ظل الشيخ على هذه الوتيرة من العمل والعلم ونشر المعرفة وتربية النفوس وتهذيب العقول والدعوة إلى الله. قد يرى أن من واجبه في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الجزائر أن يحضِّر الأرضية الصلبة وأن يعدَّ الأمة لمستقبل مشرق، تكون قادرة فيه على إبعاد هذا الليل الطويل.
في سنة 1370هـ= 1951م أسَّس رفقة أخيه الشيخ المكي القاسمي "مدرسة الفلاح" بمدينة بوسعادة لتعليم اللغة العربية والمبادئ الإسلامية.
في سنة 1373هـ= 1954م شدَّ الرحال إلى مدينة "حاسي بحبح"، وقابله أهلها بحفاوة وترحيب عظيمين لمعرفتهم بقيمة الرجل ومكانته، وواصل بهذه البلدة الطيبة مشواره من نشر العلوم والمعارف، وافتتح مدرسة أطلق عليها اسم مدرسة العرفان لتدريس العلوم الشرعية والقرآن وذلك سنة 1374هـ= 1955 وبهذه المناسبة الطيبة ألق الشيخ إمام الجلفة وعالمها الشيخ "سي عطية مسعودي" قصيدة التي عرفت شهرة كبيرة في الناحية نقتطف منها هذه الأبيات:

يا أهل " بحبح" قـد ظفرتم بالمـنى بجوار أعلام الهـدى الأخيار

"مكي" والصنو"بن عزوز "الرضي بهـما فخرتم سائر الأقـطار

فهـم الشيوخ الكـاملون وراثـة فقها ودينا واقتـفا آثـار

كم درسوا من صبية كـم فرجوا من كربة كم خرجوا من قارى

عنهم خذوا بهم اقتدوا كي تهتدوا كونوا لهم من خيرة الأنصار

وبالرغم من مضايقات الاحتلال الفرنسي إلا أن الشيخ صمم على بلوغ أهدافه وتنوير الشعب وإبراز حقائق والاستعمار والدعوة إل التمسك بالدين الحنيف والمبادئ الإسلامية والعادات والتقاليد الأصيلة، و محاربة كل من يدعو إلى التفرقة والاندماج، وفي هذا ما فيه من الجهاد والكفاح.
أقبلت الثورة التحريرية المظفرة فانبرى الشيخ يدعو إلى نصرتها وينافح عنها وهو الخطيب المفوه، ونصبته الثورة قاضيا ومفتيا لترجع إليه في ما استشكل عليها من الأمور، ويقضي بين المسلمين وفق الشريعة الإسلامية. كما شارك أبناؤه في الكفاح المسلح مثل الشيخ أحمد رحمه الله والشيخ بلقاسم حفظه الله.
بعد الاستقلال انتقل الشيخ إلى مدينة عين وسارة بطلب من أهلها، ليعلمهم أمور دينهم ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، وجعلها دار إقامة واستقرار وميدان تربية وتعليم، وقد أحاطت به جماعة من أخيارها ووجهائها وانتظمت حلقتهم العلمية وسعد الشيخ بهذه الأخوة والمحبة الخالصة لوجه الله.
لما ضاقت مكتبته بقصاده من طلبة العلم والمستفتين والمحبين، سخَّر أحد المحسنين قاعة كبيرة واسعة الأرجاء قريبة من سكن الشيخ، فأضحت منتدى علمي تعقد فيه مجالس العلم وحلقات القرآن والذكر والدعاء.
في هذه الفترة (فترة إقامته بعين وسارة) زار بيت الله الحرام مرتين حاجا، وكان يقضي شهور الصيف بمدينة الجلفة، حيث يستقبله أهلها ويقضي معهم فترة الصيف في تدارس علم وبحث في أمور فقهية واستفتاء عن مسائل لم يجدوا لها جوابا.
تخرج على يديه عدد لا يحصى من الطلبة، على مدى أكثر من نصف قرن من التدريس، لعلَّ أبرزهم الشيخ عبد الحفيظ القاسمي مؤسس مدرسة النجاح بالبيرين، والشيخ معمر حاشي إمام الجلفة والشيخ أحمد القاسمي وغيرهم كثيرون.

له من المؤلفات:

ـ شرح الصدر بإعراب آي القطر: جمع فيه ما استشهد به بن هشام الأنصاري من الآيات والأحاديث في متن القطر وشرحها شرحا مختصرا، فأعط كل شاهد ما يستحقه من معنى وإعراب.

ـ فهرست موضوعات ومصادر ومراجع اليواقيت الثمينة في الأشباه والنظائر لعبد الواحد السجلماسي.

ـ كما قام بتحقيق كتاب " الكواكب العرفانية والإشراقات الأنسية في شرح القدسية " للحسين الورتيلاني، وهو من أجل كتب التصوف بالجزائر.

ـ كتب عددا من الرسائل مثل رسالة في مناسك الحج، رسالة التقوى، رسالة في استعمال جلود الميتة، رسالة في الزكاة.

ـ أعد ترجمة للشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي، أضاف فيها الشيء الكثير عما تضمنه الزهر الباسم.

ـ كما ترك عددا كبيرا من الفتاوى يفوق الخمسمائة فتوى.

صفاتـه:

كان رحمه الله ربع القامة، أبيض البشرة، رقيق العود، خفيف اللحية أبيضها، مرتفع الجبين، واضح القسمات، أشم الأنف، تلوح من عينييه مخايل الذكاء والفطنة، شامخ الرأس دوما، خافت الصوت، يمشي الهوينا، يستعمل العصا أحيانا، طيب الرائحة، يتايمن في أموره كلها، قد زاده الشيب هيبة ووقارا، متشبثا بلباسه الوطني الأصيل الأبيض المحبب إليه، سخي اليد طاهرها، عف اللسان، لايستفزه غضب إلا في الله، لا يداهن في الحق ولا يماليء.

توفي ليلة 21 رمضان 1404 هـ الموافق ل 21 جوان 1984م بمدينة البليدة بعد مرض ألزمه الفراش مدة طويلة، ودفن بمسقط رأسه الهامل في يوم مشهود وشيعه جمع غفير في موكب مهيب غشيه حزن وأسى على فقد علم بارز من أعلام الجزائر وأبَّـنه غير


محمد المأمون القاسمي الحسني شيخ زاوية الهامل الحالي أطال الله عمره

تكملة الموضوع

.
مدونة برج بن عزوز © 2010 | تصميم و تطوير | صلاح |