بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله و على بركة الله ، و أصلي و أسلم على خاتم أنبياء الله ، محمد بن عبد الله و على آله و أصحابه الطاهرين ، و رضي الله على العلماء العاملين
أيها المشايخ العظام ، أيها العلماء الأعلام ، أيها الحاضرون الكرام ، أيها المحبون في الله ، أيها المجتمعون في هذه القلعة الحصينة بتقوى الله و رضوانه ... السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
في هذا الحصن المنيع المنور بما يتلى فيه من كتاب الله ، و بما يدرس فيه من علوم شرع الله ، و بما يردد فيه من ذكر الله و حلقاته التي أمر الرسول صلى الله عليه و سلم أن يرتع فيها من وجدها .
في هذه الزاوية العامرة التي يتنور الداخل إليها بما فيها من أسرار و أنوار السلف الصالح ، الذي على قدوتهم و طريقتهم و ثمرة من ثمرات شجرتهم الطيبة سيدي عبد المجيد حملاوي حامل لواء الطريقة الخلوتية الرحمانية ، الذي جمعنا لنتذاكر و نتدارس و نبحث في صفحات التاريخ الخلوتي و نذكر بماضيها المجيد لنغرس حبها في نفوس الجيل الجديد ، و إني لسعيد أن سهل الله لي حضور هذا الملتقى ، و كلفت بالتكلم في حياة و طريقة شيخ الخلوتية في ربوع هذا الوطن شيخنا و شيخ مشايخنا سيدي محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن يوسف بن أبي القاسـم بن علي بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين بن طلحة بن جعفر بن محمد العسكري بن عيسى الرضى بن موسى المرتضى بن جعفر الصادق بن محمد الناطق عبد الله بن حمزة بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، الأزهري مجاورة ، الاسماعيلي عرشا ، القشطولي قبيلة ، الزواوي إقليما . هكذا يعرف نفسه في رسائله و إجازاته .
ولد حوالي 1130 هـ ، و بدأ دراستـه بزاويـة الشيـخ الصديـق و أعراب نايث اراثن ، ثم انتقل إلى الجزائر ، و منها إلى الأزهر الشريف بالقاهرة ، حيث أقام بها أكثر من ربع قرن طالبـا علمـي الشريعـة و الحقيقـة على يد علمـاء عصـره ، فيقـول – قدس الله سره – عن نفسه مبينا سنده في علم الشريعـة : " أخـذت الفقه و علومه عن شيخنا العلامة صاحب التصانيف النافعة الشيخ علي بن أحمد الصادق العدوي و هو عن جماعة منهم السيد محمد السلموني و الشيخ عبد الله المغربي كلاهما عن سيدي محمد الخرشي و سيدي عبد الباقي الزرقاني و هما عن نور الدين سيدي علي الأجهوري و برهان الدين سيدي إبراهيم اللقاني و هما عن شيخ المالكية الشيخ سالم السنهوري عن الشيخ علي السنهوري و أبي الحسن الشاذلي عن العلامة الباسطي عن تاج الدين بهرام الدميري عن شيخه العلامة خليل بن إسحاق عن شيخه سيدي عبد الله المنوفي و قد أخذ الشيخ علي السنهوري المذكور عن الشيخ طاهر بن علي بن علي بن محمد النوري عن الشيخ حسن بن علي عن أبي العباس أحمد بن عمر بن هلال الربعي عن فخر الدين بن المخلصة عن أبي حفص عمر بن فراج الكندي عن أبي محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندري عن أبي بكر محمد بن الوليد خلف الطرطوشي عن أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي عن الإمام مكي القيسي الأندلسي عن الإمام أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني عن الإمام أبي بكر محمد بن اللباد الإفريقي عن الإمام يحي الكناني عن الإمام سحنون و الإمام عبد الملك عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم العتقي المصري و الإمام أشهب بن عبد الله العامري القيسي و هما عن الإمام مالك بن أنس إمام الأئمة عن ربيعة و نافع مولى ابن عمر و تفقه ربيعة عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم و تفقه نافع عن مولاه عبد الله بن عمر كلاهما أي : أنس و عبد الله عن سيد أهل الدنيا و الآخرة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب و هو قد حمل الوحي عن رب العالمين بواسطة الأمين جبريل عليه السلام .
أما سنده في علوم الحقيقة و هي سلسلة الطريقة الخلوتية فقد أخذها عن محمد بن سالم الحفناوي عن مصطفى البكري بن كمال الدين الصديقي عن عبد اللطيف الخلوتي الحلبي عن مصطفى الأنداوي عن أفندي قارا باشا عن الشيخ إسماعيل الجرمي عن محي الدين القسطوني عن شعبان القسطوني عن خير الدين التوقادي عن جمال سلطان الشهير بجمال الدين الخلوتي عن محمد بهاء الدين الشيرازي و يقال الإرنجاتي عن يحي الباكوبي عن صدر الدين الجياني عن الحاكم عز الدين عن محمد امبرام الخلوتي عن عمر الخلوتي عن محمد الخلوتي عن إبراهيم الزاهد الكيلاني عن جمال الدين التبريزي عن شهاب الدين محمد الشيرازي عن محمد النّجاشي عن قطب الدين الأبهري عن أبي النجيب السهروردي عن وجيه الدين القاضي عن محمد البكري عن ممشاد الدينوري عن أبي القاسم الجنيد سيد الطائفة البغدادية عن السري بن المغلس السقطي عن معروف بن فيروز الكرخي عن داود بن نصير الطائي عن حبيب العجمي عن الحسن و الحسين و الحسن البصري وكميل الذين لقّنهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن سيد أهل الدنيا و الآخرة محمد بن عبد الله عن جبريل عليه السلام عن رب العزة . هذه سلسلة الطريقة الخلوتية الرحمانية .
فلما رأى الشيخ الحفناوي من تلميذه الأزهري محمد بن عبد الرحمن تمكنه من العلم و اقتداره على التربية و التوجيه و لمس فيه الصلاح للدعوة إلى الله كلفه بالذهاب إلى السودان للقيام بالدعوة إلى الله و تربية العباد تربية يعتمد فيها على الكتاب و السنة النبوية ، فنجحت دعوته نجاحا كبيرا و انتشرت أفكاره و تعاليمه انتشارا واسعا ، إلى أن دعاه شيخه للعودة إلى مصـر ، حيث أجـازه و دعا له دعوات ظهرت أسرارها و سطعـت أنوارهـا ، و في سنة 1183هـ /1769 م أمره شيخه بالرجوع إلى وطنه الجزائر ، فقصد مسقط رأسه آيت اسماعيل الذي أسس فيها زاوية لتعليم القرآن ، و نشر العلم ، و تلقين الطريقة الخلوتية ، فذاع صيته و قصده المريدون و المتعلمون لما بلغ عنه من سعة في العلم و طيبة خلق و حسن معاملة ، ثم أرتأى أن الإقامة في المدينة أوسع لنشر العلم و بث الطريقة ، انتقل إلى الجزائر العاصمة و أقام زاوية بضاحية " الحامـة " امتد إشعاعها و قصدها الطلاب و المريدون و الزوار من كل الأنحاء ابتغاء ما كان يدعو إليه الشيخ ، و يقوم به من معالجة النفوس و تطهير للقلوب ، و إبداء النصائح لتصفيتها من الكبر ، و العجب ، و الحسد ، و المكر ، و الابتعاد عن البدع و الخرافات ، يقول في وصيـتـه : " عليـك باتبـاع السنـة و الكتـاب فإنـهما الطـريق الموصـل إلى الله تـعـالى " ( ).
و قد كان يحث أتباعـه و مريديه على طلب العلم ، و يراه الطريق الصحيح للعبادة ، و العبادة بدون علم لا عبرة بها كما جاء هذا في رسالة بعث بها الشيخ بن عزوز البرجي أحد تلاميذه في أثنائها قال : " عليكم بمراتب الطريقة إلى الله تعالى و هي ثلاثة : شرعية، و طريقة ، و حقيقة " .
فالشرعية العلم الذي يجب على كل مكلف معرفته ، و الطريقة هي القصد إلى الله تعالى بذلك العلم و هو السير إليه تعالى و هو العمل لأن علما بلا عمل لا يسمى علما كما أن عملا بلا علم لا عبرة به فهما متلازمان ، و أما الحقيقة فهي الثمرة و هي الوصول إلى المطلب و منها مشاهدة النور المطلوب و منها قول أبو بكر رضي الله عنه : " ما رأيت شيئا إلا رأيت الله تعالى فيه " ، فالوصول وصول عظمة و افتقار لا وصول مسافة و انتظار .
و مما اختص به رضي الله عنه أنه كان يقدم العلم و الوصايا لتلاميذه و رواده كل حسب فهمه و طاقته العلمية و العقلية ، يخاطب الناس بما يفهمون ، فرغب الناس في الاستماع إليه فعم النفع بإرشاده الخواص و العوام ، فأرشد الله على يده و بعلمه و طريقته الضالين ، و هدي الحائرين ، لأنه من أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما : " خيـاركـم من تذكـر بالله رؤيـتـه ، و زاد في عملـكـم منطـقـه ، و رغبكـم في الآخـرة عـمـلـه " . و إذا كان الشيخ رحمه الله لم يرزق بأبناء صلبه فإن الله عوضه بما تخرج عليه من مشايخ ، يذكر صاحب كتاب " تعريف الخلف برجال السلف " أن الذين تخرجوا على يده أربعة و عشرون وليا ، و قد قام تلاميذ الشيخ ابن عبد الرحمن بنشر الطريقة و العلم ، في ربوع الوطن و خارجه بما كونوا من مراكز إشعاع و زوايا لتلقين مبادئ الطريقة الرحمانية و تعليم القرآن و العلوم الشرعية ، و مما امتاز به هؤلاء الشيوخ من العلم و العبادة و الزهد في الدنيا و حب الخير للجميع ، جعل قلوب العباد تطمئن لمعاملتهم ، و النفوس تهدأ لهم ، فكسبوا بذلك محبة و احترام الجميع ، فصاروا المرجع في العبادات ، و أصحاب الرأي و المشورة في المعاملات ، و أولي الكلمة المسموعة في فك الخصومات الكل يرضى بحكمهم ، و يخضع لرأيهم و ينقاد لأمرهم ، و مع هذا فقد كان شيخهم ابن عبد الرحمن لا يغفل عن مراسلتهم ، يوجه لهم النصائح و الإرشادات ، و يذكرهم بتقوى الله في كل معاملاتهم و كل حركاتهم و سكناتهم ، نلمس هذا في رسالة وجهها للشيخ محمد بن عزوز البرجي ، فبعد الحمدلة و التحيات قال :" اعلم أيها الحبيب على الله تعالى أن الأعمار مراحل ، و الأعمال منازل ، و التقوى دليل ، و الصدق سبيل ، و التوحيد مقصود ، و السوى مفقـود ، و دوام الذكر استغراق في المعبود ، و عدم الوقوف مع الواردات وسيلة الشهود ، و إن الله تعالى غيور و العبد عثـور " ، و لم يفارق الدنيا حتى رأى ثمرة عمله و توجيهه في نجاح تلاميذه الذين عوضه الله بهم عن أولاد الصلب .
فكانت وفاته رضي الله عنه عام 1208 هـ / سنة 1793 م رحمه الله رحمة واسعة ، فلم يفارق الدنيا حتى رأى انتشارا واسعا للطريقة ، التي اتبعها الخواص قبل العوام نظرا لما اتسمت به الطريقة الخلوتية الرحمانية من تطبيق للدين الصحيح ، و اقتفائها للسنّة النبوية الشريفة ، و انتسب إليها و دخل فيها و قام بنشرها علماء و فقهاء أجلاء ، ففيهم من اشتهر بالانتساب إليها أمثال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي صاحــب التآليف و التصانيف المختلفة العلوم و الفنون ، و الشيخ عاشور الخنقي ، و الشيخ محمد أبي القاسم الحفناوي صاحب كتاب " تعريف الخلف برجال السلف " ، …، و غيرهم كثيرون مما لا يمكن حصرهم ، و منهم من لم يشتهر بالانتساب للطريقة و لم يذكر اسمه بين الأتباع و المريدين ، و لم يطلع عليه إلا القليل كالشيخ المكي بن عزوز البرجي صاحب التآليف الكثيرة و الرسائل و القصائد ، تولى القضاء بنفطة بالبلاد التونسيــة و درّس في جامع الزيتونة بتونس ، و تولى الإفتاء بالأستانة ، أي : كان مفتيا للديار الإسلامية ، كما أن لهذا الشيخ كتابا سماه " السيف الرباني في عنق المعترض على الشيـخ الجيـلالي "، و له منظومة سماها " وسيلة الأمان في مناقب الشيخ علي بن عثمان " .
مطلعها :
حمدا لباسط الأنام في الورى ** ما دامت الأشراف في الدنيا ترى
إلى أن يقول :
كشيخنا طود الأسانيد علي ** هو ابن عثمان زكي العمل
محي طريق: جـده التهامي ** صلى عليه خالـق الأنـام
كما قام الشيخ المكي بالرد على الشيخ رشيد رضا لما أنكر كرامات الأولياء فمما جاء في الرد : " أنتم تعلمون أن الكرامة ثابتة عند أهل السنة قاطبة حتى الإسفرايني و القشيري المروي عنهما البحث في شأن الكرامة ما أنكراها ، و إنما قالا أنها لا تبلغ مبلغ المعجـزة ، و بعضهم اشترط أن لا تتوالى و لا تترادف ترادفا يجعلها عادة و فيه نظر ، و كلاهما الآن في جواز وقوعها إمكانا و سنة لا في عوارضها ، و إرشاداتكم على طريقة السلف الصالحين في الاعتقاد ، و هل نطـق بذلك أحد من أهل القرون الثلاثة ؟ فتأملوا المسألة فإن خطرها كبير ، و الماديون و الطبيعيون بالمرصاد ، فإذا سمعوا علماء الملة يقولون بعدم خرق العادة ، فيا بشراهم يبنون على هذا الأساس الموهوم ما شاءوا لأن مذاهبهم انعزال الخالق جل جلاله عن التصرف في العالم استغناء بالطبيعة ، أعاذنا الله و إياكم من الضلالة و بالله التوفيق " .
و لما توفي الشيخ المكي رحمه الله رثاه الشيخ الطيب العقبي بقصيدة تشمل على خمسين بيتا قدم لها بقوله : " و هذه قصيدة قلتها بالمدينة المنورة أرثي بها العلامة الشيخ محمد المكي بن عزوز دفين دار السعادة لما بلغني خبر وفاته ، و كان مما يعز علي كثيرا لما بيني و بينه من المؤانسة و عظيم الوداد ، و لم أرث أحدا قبله فهي أول مرثية لي .
قال في مطلعها :
هي الدار في أحداثها تتجرم * سرور فأحزان فعـرس فمأتم
إلى أن يقول :
بكت سنة من بعده و تألمت * فقد كان إن مست لها يتألم
و يختمها :
عليك سلام الله حيا و ميتا * فآخر عهدي أنني بك مغرم " .
و مثله الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – فقلّ من يعرف انتسابه للطريقة الخلوتية الرحمانيـة و تفانيه في خدمتها و محبتها ، و محبة مشايخها أحياء و أمواتا ، و الاعتقاد في بركتهم ، و الدليل على هذا إشرافه على تصحيح الطبعة الثانية لـ " المنظومة الرحمانية في الأسباب الشرعية المتعلقة بالطريقة الخلوتية " نظم الشيخ عبد الرحمن باش تارزي يقول الشيخ عبد الحميد في آخر الكتاب : " ندبني الشيخ المذكور مصطفى باش تارزي إلى إعانته على نشر المنظومة الرحمانية بالوقوف على تصحيحها فلبيت طلبه راجيا من وراء ذلك أن يتذكر الإخوان ما عليهم في هذا الطريق الشرعي من الأدب العملي و العلمي ، و يعلموا أنهم لا يكفيهم في ترقية نفوسهم مجرد الانتساب الإسمي ، فيدعوهم ذلك إلى العلـم و التعلم اللذين لا سعادة في الدارين بدونهما و لا تقدم ، فيفقهوا حينئذ حقيقة الدين و ينتفعوا بنصائح المرشدين ، و يكونوا يوم ذلك إن شاء الله تعالى من المهتدين ، و الله المسؤول أن يهب التوفيق و النفع و الثواب لكل ساع في خير المسلمين آمين ، و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين " .
و تحت عنوان خاتمة الطبع بقلم المصحح :
" الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على جميع الأنبياء و المرسلين و الآل و الصحابة أجمعين و جميع التابعين بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : فقد تم طبع المنظومة الرحمانية ذات الأسرار الربانية الجامعة لأصول الطريقة الخلوتية ، و آداب التربية الشرعية الدالة على علم ناظمها و بركته بما نفع الله بها من أتباعه و تلامذته ، حتى نفدت طبعتها الأولى مع شرحها ، فكثرت الرغبات ، و توالت الطلبات في إعادة طبعها لتعميم نفعها ، فقام بذلك على نفقته العالم البركة الخير الثقة شيخ شيوخ الطريقة الخلوتية بقسنطينة اليوم المتحلى من أخلاق أسلافه بالنفائس الغالية السوم الشيخ سيدي مصطفى ابن الشيخ سيدي محمود ابن الشيخ سيدي الحاج محمد ابن الشيخ سيدي محمود ابن الشيخ الأكبر سيدي الحاج عبد الرحمن باش تارزي زاده الله من بره و توفيقه و سدده في سلوك طريقه بمنه آمين .
و لنحل هذه الخاتمة بكلمات وجيزة في ترجمته فنقول : لا زال هذا الرجل معروفا من شبابه بجمال العفة ، و حسن السمت ، و مكارم الأخلاق ، و الحياء التام ، و التواضع الفطري مع جميع الناس .
اعتنى بتربيته أبوه الشيخ سيدي محمود ، ثم ابن عم جده الشيخ سيدي الحاج السعيد ، فحفظ القرآن الكريم ، و قرأ العلم و تأدب بآداب الطريق و شبّ على الأخلاق الكريمة اللائقة بمثله ، في كرم مجده و شريف تربيته ، و ما هو مترشح له من الجلوس على سجادة الطريق ، و تهذيب الإخوان حتى نال بذلك المنزلة الرفيعة من قلوب عارفيه عموما ، و أهل الطريقة خصوصا .
و في رجـب عام 1329 هـ ولي خطـة الخطابة و الإمامة بالجامع الأخضر الحنفي ، بعد وفاة الشيخ سيدي السعيد الذي كان إماما خطيبا بالجامع الكتاني الحنفي .
و في شوال 1335 هـ جلس على سجادة الطريقة الخلوتية بعد وفاة عمه الشيخ البركة سيدي الحاج أحمد عليه الرحمة و الرضوان ، و له في الإذن بتلقين ذكر الطريقة الخلوتية إجازتان تتصلان بالقطب الأكبر و الغوث الأشهر الشيخ سيدي محمد بن عبد الرحمن القشطولي الأزهري دفين الجزائر ، الذي أتى بالطريقة الخلوتية إلى وطن الجزائر من ديار مصر " .
نقلت حرفيا من آخر المنظومة الرحمانية مطبعة النجاح .
أما كتاب "دراسات في الأدب العربي القديم" للدكتور عبد الله حمادي أثبت فيه رسائل من الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى الشيخ الطاهر العبيدي أحد كبار علماء الجزائر و سيد من سادات الطريقة الرحمانية له رسالة منظومة في الدعوة إلى الطريقة العزوزية الرحمانية المعروفة بالنصيحة العزوزية .
يقول في مطلعها : إن ترد عزة و فضل مزيه * فتلق الطريقة العزوزية
جاء في الرسالة التي بعث بها الشيخ عبد الحميد إلى صديقه الشيخ الطاهر العبيدي هذا نصها : " بسم الله الرحمن الرحيم و صلى الله على سيدنا محمد و آله و سلم ، إلى حضرة علم العلم و الفضل ، و معلم الكرم و النبل ، التقي الطاهر ، الأثواب السري البارع للأدب ، مستحق الشكر منا بما له علينا من سابق الأيدي العلامة الشيخ سيدي أبي الطيب الطاهر العبيدي ، أدامه الله بدرا طالعا في هالة درسه ، و غيثا هامعا في ربع العلم ، من بعد طمسه حتى وحشة قطره بأنسه ، و يحقق من بساتين تلاميذه ثمرات غرسه آمين .
وبعد : سلام كما تفتحت الأزهار في نسمات الأسحار ، و تحية تحيي قديم التذكار و إن شطت الديار ، فإني كتبته إليكم من حضرة قسنطينة ، يوم قدومي من رحلة كنت أعملتها من ناحية الجزائر و تلمسان ، لزيارة الأحياء و الأموات من العلماء و الصلحاء و أعيان الزمان ، فتشرفت بسادات كثيرين منهم العلماء و الصالحين ، و من أعظم الجميع قدرا و أشهرهم ذكرا ، سيدي أبي مدين الغوث ، و سيدي محمد السنوسي بتلمسان ، و سيدي محمد بن عبد الرحمن ، و سيدي عبد الرحمن الثعالبي بالجزائر ، و دعونا للمومنين عامة و إخواننا أمثالكم خاصة ، بما نرجو من الله تعالى فيه القبول و بلوغ المأمول ، و ذكرت لكم هذا لما أعلمه فيكم من محبة الصالحين ، و إن أمكنت لي الفرصة إن شاء الله تعالى كاتبتكم عن هذه الرحلة بمزيد تفصيل ، و وافى كتابكم في غيابي في هذه الرحلة ،، فلما قدمت و قبلته كرمته على غيره و قبلته ، و كان ما داخلني من السرور ، لكون خطابه مخففا لما غشيني من الخجل لمرّ عتابه ، و لك العتبى يا سيدي فيما ذكرته و منك الفضل فيما به ابتدأت و تفضلت فقد باغتتني القصيدة الغراء التي راقت و رقت و استوجبت الحمد ، و استحسنته ، فنظرت إلى أوصافك الكريمة ، فحليتني بها و نسبتني إليها ، ببركة محبتك الخالصة ما ظننت ، و يجازيك بالخـير الجزيـل على ما فعلـت ، هذا و إني ما أخرت الجواب متهاونـا – أستغفر الله – و لا متكاسلا ، و لكن حسبت أني أجبتكم فيمن أجبت ، حتى جاء كتابكم فعلمـت أنني غالط فيما ظننت ، فبادرت بها متحاملا على حلمك ، معتمدا على فضلـك ، و العفو يا سيدي من شيم أمثالكم لا أعدمني الله من أفضالكم ، و أقول :
إن كنت قد قصرت في الكتابة ** و الله ما ملت عن ودادي
و إنما كـأن ذلـك منــي ** عن غفلة ليس عن مرادي
فسامحوا طاهـري بفضــل ** و حسبكم مسكنا فؤادي
و يعود من العبد و جماعته السلام عليكم و على جماعتكم ، و أحبائكم كلهم لديكم، و كثير الدعاء لكم بالخير ، طالبا منكم مثله ، أخوكم و شاكر فضلكم ومملوك إحسانكم " .
و يقول الدكتور عبد الله حمادي : " و مما تمكنت من استخلاصه من المراسلة الوحيـدة التي عثرت عليها ، و التي وجههـا ابن بـاديس للشيـخ الطاهر العبيدي عام 1337 هـ / 1916 م أو 1917 م تقريبا ، أن عبد الحميد بن باديس كان في شبابه كثير التردد على أضرحة الأولياء و الصالحين ، و ذلك للتبرك بهم " .
و قد ثبت أن عبد الحميد بن باديس قد زار طولقة و برجها ، للتبرك بضريح الشيخين ابن عزوز و علي بن عمر ، و ربما كان ذلك في حدود 1925 م أو 1926 م و التي نقتطف منها هذه الأبيات ، التي تعبر عن مستوى عبد الحميد الشعري ، و كذا عن مدى تعلقه بالأولياء الصالحين :
عوجوا نحيي منازل الأمجاد ** و نـؤدي حـق زيارة الأسياد
و نحط أرجلنا بدار كرامة ** مبذولـة الروضـات للـرواد
فهي الملاذ لكل جان خائف ** و هي الشفا من وصمة الأنكاد
ما بين طولقة فبرج حيث ** تبصر نور أهـل الله في إصعـاد
الطريقة الرحمانية طريقة علم و تربية و جهاد :
لم تقتصر الطريقة الرحمانية على تعليم القرآن و العلوم الشرعية و التربية الروحية ، بل كانت إلى جانب تعليمها و تربيتها طريقة جهاد ، فأتباع الطريقة لم يتقاعسوا عن محاربة المستعمر طيلة وجوده في الجزائر ، إلى أن خرج منها مذموما مدحورا ، تحدث الدكتور يحي بوعزيز عن دور عائلتي المقراني و الحداد في مقال له بمجلة الثقافة جاء فيه : " غير أن دور جماهير الإخوان الرحمانيين سنة1871 م سيبقى بارزا و رئيسيا و فعالا في كل المناطق التي امتدت إليها الثورة ، بالبابور و البيبان و جرجرة و التيطري ، بل و في الأوراس نفسها ، إذ كانوا أداتها الرئيسية في الدعاية و المراسلة و الاتصالات و المعارك ، و حصار المدن و القلاع و المراكز العسكرية الفرنسية ، و من هنا فإن ثورتي المقراني و الحداد 1871 م هي ثورة الإخوان الرحمانيين ، الذين كانوا في نظر الفرنسيين أهم خطر واجهوه في الثورة ، و كاد أن يعصف بهم نظرا لعددهم الضخم ، و الدور الفعال و الواسع الذي قاموا به خلال الثـورة ، و الأهداف الواضحة التي كانوا يسعون لتحقيقها ، و المتمثلة في تحقيق الاستقلال الوطني لبلادهم .
و جاء في كتاب الطرق الدينية المسلمة للكاتب ب.ج أندري من أكاديمية العلوم الاستعمارية ، مقدمة الكتاب لجاك سوستـال الحاكـم العام للجزائر تحت عنوان " الطريقة الرحمانية " قال : " في سنة 1871 م ، تزعم سي محمد أمزيان الحداد شيخ الرحمانية في القبائل و التل ، تزعم و قاد الانتفاضة المناوئة للوجود الفرنسي " إلى أن يـقـول : " أغلقت زاوية جرجرة لأسباب سياسية ، و سجن شيخها و صودرت ممتلكاتها " .
و يقول نفس المصدر : " قد ظهرت في مدرونة بالأوراس سنة 1876 منظمة سرية بعد أحداث الشمال القسنطيني ، و سميت بالطريقة الدردورية ، نسبة لمؤسسها سي الهاشمي بن سي على دردور و هو تلميذ من منطقة سيدي ناجي متشبع بالمبادئ الحقيقية للطريقة الرحمانية بعد اضطراب الأوراس نال هو و أسرته و إخوانه حوالي 1500 جزائهم و جزاء تطرفهم ، غير أن أتباعه لم يقض عليهم بالكلية ، و في سنة1896 م ، بقي قادة الرحمانية النشيطين يسيرون حوالي 160000 منخرطا ، و رغم التطورات و العصرنة بقي الرحمانيون متشبثين بمبادئ الخلوتية الأصلية " إلى أن يقول : " كان للطريقة الرحمانية دور فعال في أحداث 8 ماي 1945 م و في الحملة التونسية 1943 م إلى 1944 م كانت الزوايا الرحمانية في قسنطينة و بسكرة ، محطات المبعوثين المتوجهين إلى بسكرة و الأوراس للمشاركة في اجتماعات سرية ، و كان للرحمانيين دور في أحداث 1954-1955 م " .
إن بقاء الزوايا و استمرارها في تأدية رسالتها التي أنشئت و أسست من أجلها و هي تعليم القرآن ، و العلوم الشرعية ، و نشر كلمة التوحيد و ترسيخها في العقول و الأفكار ، لأكبر دليل على صحة طريقة القوم ، و سلامة منهجهم ، و إخلاص عملهم ، و صدق نواياهم ، و هجرتهم لخالقهم الذي عرفوه فأخلصوا له دون انتظار شكر ، فحمى بحماه أعمالهم و جعلها متواصلة غير منقطعة ، و حفظ بلحظ عنايته زواياهم ، التي هي منذ مئات السنين تؤدي رسالتها العلمية والروحية ، رغم الحواجز و العراقيل التي تعترض سبيلها ، إلا أن الله دائم النصر و التأييد ، لعباده الصالحين و بيوتهم الطاهرة ، " و ما النّصر إلا من عند الله العزيز الحكيم" (سورة آل عمران 126) صدق الله العظيم .
الشيخ عبد القادر عثماني
بسم الله و على بركة الله ، و أصلي و أسلم على خاتم أنبياء الله ، محمد بن عبد الله و على آله و أصحابه الطاهرين ، و رضي الله على العلماء العاملين
أيها المشايخ العظام ، أيها العلماء الأعلام ، أيها الحاضرون الكرام ، أيها المحبون في الله ، أيها المجتمعون في هذه القلعة الحصينة بتقوى الله و رضوانه ... السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
في هذا الحصن المنيع المنور بما يتلى فيه من كتاب الله ، و بما يدرس فيه من علوم شرع الله ، و بما يردد فيه من ذكر الله و حلقاته التي أمر الرسول صلى الله عليه و سلم أن يرتع فيها من وجدها .
في هذه الزاوية العامرة التي يتنور الداخل إليها بما فيها من أسرار و أنوار السلف الصالح ، الذي على قدوتهم و طريقتهم و ثمرة من ثمرات شجرتهم الطيبة سيدي عبد المجيد حملاوي حامل لواء الطريقة الخلوتية الرحمانية ، الذي جمعنا لنتذاكر و نتدارس و نبحث في صفحات التاريخ الخلوتي و نذكر بماضيها المجيد لنغرس حبها في نفوس الجيل الجديد ، و إني لسعيد أن سهل الله لي حضور هذا الملتقى ، و كلفت بالتكلم في حياة و طريقة شيخ الخلوتية في ربوع هذا الوطن شيخنا و شيخ مشايخنا سيدي محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن يوسف بن أبي القاسـم بن علي بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد بن الحسين بن طلحة بن جعفر بن محمد العسكري بن عيسى الرضى بن موسى المرتضى بن جعفر الصادق بن محمد الناطق عبد الله بن حمزة بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، الأزهري مجاورة ، الاسماعيلي عرشا ، القشطولي قبيلة ، الزواوي إقليما . هكذا يعرف نفسه في رسائله و إجازاته .
ولد حوالي 1130 هـ ، و بدأ دراستـه بزاويـة الشيـخ الصديـق و أعراب نايث اراثن ، ثم انتقل إلى الجزائر ، و منها إلى الأزهر الشريف بالقاهرة ، حيث أقام بها أكثر من ربع قرن طالبـا علمـي الشريعـة و الحقيقـة على يد علمـاء عصـره ، فيقـول – قدس الله سره – عن نفسه مبينا سنده في علم الشريعـة : " أخـذت الفقه و علومه عن شيخنا العلامة صاحب التصانيف النافعة الشيخ علي بن أحمد الصادق العدوي و هو عن جماعة منهم السيد محمد السلموني و الشيخ عبد الله المغربي كلاهما عن سيدي محمد الخرشي و سيدي عبد الباقي الزرقاني و هما عن نور الدين سيدي علي الأجهوري و برهان الدين سيدي إبراهيم اللقاني و هما عن شيخ المالكية الشيخ سالم السنهوري عن الشيخ علي السنهوري و أبي الحسن الشاذلي عن العلامة الباسطي عن تاج الدين بهرام الدميري عن شيخه العلامة خليل بن إسحاق عن شيخه سيدي عبد الله المنوفي و قد أخذ الشيخ علي السنهوري المذكور عن الشيخ طاهر بن علي بن علي بن محمد النوري عن الشيخ حسن بن علي عن أبي العباس أحمد بن عمر بن هلال الربعي عن فخر الدين بن المخلصة عن أبي حفص عمر بن فراج الكندي عن أبي محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندري عن أبي بكر محمد بن الوليد خلف الطرطوشي عن أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي عن الإمام مكي القيسي الأندلسي عن الإمام أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني عن الإمام أبي بكر محمد بن اللباد الإفريقي عن الإمام يحي الكناني عن الإمام سحنون و الإمام عبد الملك عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم العتقي المصري و الإمام أشهب بن عبد الله العامري القيسي و هما عن الإمام مالك بن أنس إمام الأئمة عن ربيعة و نافع مولى ابن عمر و تفقه ربيعة عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم و تفقه نافع عن مولاه عبد الله بن عمر كلاهما أي : أنس و عبد الله عن سيد أهل الدنيا و الآخرة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب و هو قد حمل الوحي عن رب العالمين بواسطة الأمين جبريل عليه السلام .
أما سنده في علوم الحقيقة و هي سلسلة الطريقة الخلوتية فقد أخذها عن محمد بن سالم الحفناوي عن مصطفى البكري بن كمال الدين الصديقي عن عبد اللطيف الخلوتي الحلبي عن مصطفى الأنداوي عن أفندي قارا باشا عن الشيخ إسماعيل الجرمي عن محي الدين القسطوني عن شعبان القسطوني عن خير الدين التوقادي عن جمال سلطان الشهير بجمال الدين الخلوتي عن محمد بهاء الدين الشيرازي و يقال الإرنجاتي عن يحي الباكوبي عن صدر الدين الجياني عن الحاكم عز الدين عن محمد امبرام الخلوتي عن عمر الخلوتي عن محمد الخلوتي عن إبراهيم الزاهد الكيلاني عن جمال الدين التبريزي عن شهاب الدين محمد الشيرازي عن محمد النّجاشي عن قطب الدين الأبهري عن أبي النجيب السهروردي عن وجيه الدين القاضي عن محمد البكري عن ممشاد الدينوري عن أبي القاسم الجنيد سيد الطائفة البغدادية عن السري بن المغلس السقطي عن معروف بن فيروز الكرخي عن داود بن نصير الطائي عن حبيب العجمي عن الحسن و الحسين و الحسن البصري وكميل الذين لقّنهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن سيد أهل الدنيا و الآخرة محمد بن عبد الله عن جبريل عليه السلام عن رب العزة . هذه سلسلة الطريقة الخلوتية الرحمانية .
فلما رأى الشيخ الحفناوي من تلميذه الأزهري محمد بن عبد الرحمن تمكنه من العلم و اقتداره على التربية و التوجيه و لمس فيه الصلاح للدعوة إلى الله كلفه بالذهاب إلى السودان للقيام بالدعوة إلى الله و تربية العباد تربية يعتمد فيها على الكتاب و السنة النبوية ، فنجحت دعوته نجاحا كبيرا و انتشرت أفكاره و تعاليمه انتشارا واسعا ، إلى أن دعاه شيخه للعودة إلى مصـر ، حيث أجـازه و دعا له دعوات ظهرت أسرارها و سطعـت أنوارهـا ، و في سنة 1183هـ /1769 م أمره شيخه بالرجوع إلى وطنه الجزائر ، فقصد مسقط رأسه آيت اسماعيل الذي أسس فيها زاوية لتعليم القرآن ، و نشر العلم ، و تلقين الطريقة الخلوتية ، فذاع صيته و قصده المريدون و المتعلمون لما بلغ عنه من سعة في العلم و طيبة خلق و حسن معاملة ، ثم أرتأى أن الإقامة في المدينة أوسع لنشر العلم و بث الطريقة ، انتقل إلى الجزائر العاصمة و أقام زاوية بضاحية " الحامـة " امتد إشعاعها و قصدها الطلاب و المريدون و الزوار من كل الأنحاء ابتغاء ما كان يدعو إليه الشيخ ، و يقوم به من معالجة النفوس و تطهير للقلوب ، و إبداء النصائح لتصفيتها من الكبر ، و العجب ، و الحسد ، و المكر ، و الابتعاد عن البدع و الخرافات ، يقول في وصيـتـه : " عليـك باتبـاع السنـة و الكتـاب فإنـهما الطـريق الموصـل إلى الله تـعـالى " ( ).
و قد كان يحث أتباعـه و مريديه على طلب العلم ، و يراه الطريق الصحيح للعبادة ، و العبادة بدون علم لا عبرة بها كما جاء هذا في رسالة بعث بها الشيخ بن عزوز البرجي أحد تلاميذه في أثنائها قال : " عليكم بمراتب الطريقة إلى الله تعالى و هي ثلاثة : شرعية، و طريقة ، و حقيقة " .
فالشرعية العلم الذي يجب على كل مكلف معرفته ، و الطريقة هي القصد إلى الله تعالى بذلك العلم و هو السير إليه تعالى و هو العمل لأن علما بلا عمل لا يسمى علما كما أن عملا بلا علم لا عبرة به فهما متلازمان ، و أما الحقيقة فهي الثمرة و هي الوصول إلى المطلب و منها مشاهدة النور المطلوب و منها قول أبو بكر رضي الله عنه : " ما رأيت شيئا إلا رأيت الله تعالى فيه " ، فالوصول وصول عظمة و افتقار لا وصول مسافة و انتظار .
و مما اختص به رضي الله عنه أنه كان يقدم العلم و الوصايا لتلاميذه و رواده كل حسب فهمه و طاقته العلمية و العقلية ، يخاطب الناس بما يفهمون ، فرغب الناس في الاستماع إليه فعم النفع بإرشاده الخواص و العوام ، فأرشد الله على يده و بعلمه و طريقته الضالين ، و هدي الحائرين ، لأنه من أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما : " خيـاركـم من تذكـر بالله رؤيـتـه ، و زاد في عملـكـم منطـقـه ، و رغبكـم في الآخـرة عـمـلـه " . و إذا كان الشيخ رحمه الله لم يرزق بأبناء صلبه فإن الله عوضه بما تخرج عليه من مشايخ ، يذكر صاحب كتاب " تعريف الخلف برجال السلف " أن الذين تخرجوا على يده أربعة و عشرون وليا ، و قد قام تلاميذ الشيخ ابن عبد الرحمن بنشر الطريقة و العلم ، في ربوع الوطن و خارجه بما كونوا من مراكز إشعاع و زوايا لتلقين مبادئ الطريقة الرحمانية و تعليم القرآن و العلوم الشرعية ، و مما امتاز به هؤلاء الشيوخ من العلم و العبادة و الزهد في الدنيا و حب الخير للجميع ، جعل قلوب العباد تطمئن لمعاملتهم ، و النفوس تهدأ لهم ، فكسبوا بذلك محبة و احترام الجميع ، فصاروا المرجع في العبادات ، و أصحاب الرأي و المشورة في المعاملات ، و أولي الكلمة المسموعة في فك الخصومات الكل يرضى بحكمهم ، و يخضع لرأيهم و ينقاد لأمرهم ، و مع هذا فقد كان شيخهم ابن عبد الرحمن لا يغفل عن مراسلتهم ، يوجه لهم النصائح و الإرشادات ، و يذكرهم بتقوى الله في كل معاملاتهم و كل حركاتهم و سكناتهم ، نلمس هذا في رسالة وجهها للشيخ محمد بن عزوز البرجي ، فبعد الحمدلة و التحيات قال :" اعلم أيها الحبيب على الله تعالى أن الأعمار مراحل ، و الأعمال منازل ، و التقوى دليل ، و الصدق سبيل ، و التوحيد مقصود ، و السوى مفقـود ، و دوام الذكر استغراق في المعبود ، و عدم الوقوف مع الواردات وسيلة الشهود ، و إن الله تعالى غيور و العبد عثـور " ، و لم يفارق الدنيا حتى رأى ثمرة عمله و توجيهه في نجاح تلاميذه الذين عوضه الله بهم عن أولاد الصلب .
فكانت وفاته رضي الله عنه عام 1208 هـ / سنة 1793 م رحمه الله رحمة واسعة ، فلم يفارق الدنيا حتى رأى انتشارا واسعا للطريقة ، التي اتبعها الخواص قبل العوام نظرا لما اتسمت به الطريقة الخلوتية الرحمانية من تطبيق للدين الصحيح ، و اقتفائها للسنّة النبوية الشريفة ، و انتسب إليها و دخل فيها و قام بنشرها علماء و فقهاء أجلاء ، ففيهم من اشتهر بالانتساب إليها أمثال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي صاحــب التآليف و التصانيف المختلفة العلوم و الفنون ، و الشيخ عاشور الخنقي ، و الشيخ محمد أبي القاسم الحفناوي صاحب كتاب " تعريف الخلف برجال السلف " ، …، و غيرهم كثيرون مما لا يمكن حصرهم ، و منهم من لم يشتهر بالانتساب للطريقة و لم يذكر اسمه بين الأتباع و المريدين ، و لم يطلع عليه إلا القليل كالشيخ المكي بن عزوز البرجي صاحب التآليف الكثيرة و الرسائل و القصائد ، تولى القضاء بنفطة بالبلاد التونسيــة و درّس في جامع الزيتونة بتونس ، و تولى الإفتاء بالأستانة ، أي : كان مفتيا للديار الإسلامية ، كما أن لهذا الشيخ كتابا سماه " السيف الرباني في عنق المعترض على الشيـخ الجيـلالي "، و له منظومة سماها " وسيلة الأمان في مناقب الشيخ علي بن عثمان " .
مطلعها :
حمدا لباسط الأنام في الورى ** ما دامت الأشراف في الدنيا ترى
إلى أن يقول :
كشيخنا طود الأسانيد علي ** هو ابن عثمان زكي العمل
محي طريق: جـده التهامي ** صلى عليه خالـق الأنـام
كما قام الشيخ المكي بالرد على الشيخ رشيد رضا لما أنكر كرامات الأولياء فمما جاء في الرد : " أنتم تعلمون أن الكرامة ثابتة عند أهل السنة قاطبة حتى الإسفرايني و القشيري المروي عنهما البحث في شأن الكرامة ما أنكراها ، و إنما قالا أنها لا تبلغ مبلغ المعجـزة ، و بعضهم اشترط أن لا تتوالى و لا تترادف ترادفا يجعلها عادة و فيه نظر ، و كلاهما الآن في جواز وقوعها إمكانا و سنة لا في عوارضها ، و إرشاداتكم على طريقة السلف الصالحين في الاعتقاد ، و هل نطـق بذلك أحد من أهل القرون الثلاثة ؟ فتأملوا المسألة فإن خطرها كبير ، و الماديون و الطبيعيون بالمرصاد ، فإذا سمعوا علماء الملة يقولون بعدم خرق العادة ، فيا بشراهم يبنون على هذا الأساس الموهوم ما شاءوا لأن مذاهبهم انعزال الخالق جل جلاله عن التصرف في العالم استغناء بالطبيعة ، أعاذنا الله و إياكم من الضلالة و بالله التوفيق " .
و لما توفي الشيخ المكي رحمه الله رثاه الشيخ الطيب العقبي بقصيدة تشمل على خمسين بيتا قدم لها بقوله : " و هذه قصيدة قلتها بالمدينة المنورة أرثي بها العلامة الشيخ محمد المكي بن عزوز دفين دار السعادة لما بلغني خبر وفاته ، و كان مما يعز علي كثيرا لما بيني و بينه من المؤانسة و عظيم الوداد ، و لم أرث أحدا قبله فهي أول مرثية لي .
قال في مطلعها :
هي الدار في أحداثها تتجرم * سرور فأحزان فعـرس فمأتم
إلى أن يقول :
بكت سنة من بعده و تألمت * فقد كان إن مست لها يتألم
و يختمها :
عليك سلام الله حيا و ميتا * فآخر عهدي أنني بك مغرم " .
و مثله الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – فقلّ من يعرف انتسابه للطريقة الخلوتية الرحمانيـة و تفانيه في خدمتها و محبتها ، و محبة مشايخها أحياء و أمواتا ، و الاعتقاد في بركتهم ، و الدليل على هذا إشرافه على تصحيح الطبعة الثانية لـ " المنظومة الرحمانية في الأسباب الشرعية المتعلقة بالطريقة الخلوتية " نظم الشيخ عبد الرحمن باش تارزي يقول الشيخ عبد الحميد في آخر الكتاب : " ندبني الشيخ المذكور مصطفى باش تارزي إلى إعانته على نشر المنظومة الرحمانية بالوقوف على تصحيحها فلبيت طلبه راجيا من وراء ذلك أن يتذكر الإخوان ما عليهم في هذا الطريق الشرعي من الأدب العملي و العلمي ، و يعلموا أنهم لا يكفيهم في ترقية نفوسهم مجرد الانتساب الإسمي ، فيدعوهم ذلك إلى العلـم و التعلم اللذين لا سعادة في الدارين بدونهما و لا تقدم ، فيفقهوا حينئذ حقيقة الدين و ينتفعوا بنصائح المرشدين ، و يكونوا يوم ذلك إن شاء الله تعالى من المهتدين ، و الله المسؤول أن يهب التوفيق و النفع و الثواب لكل ساع في خير المسلمين آمين ، و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين " .
و تحت عنوان خاتمة الطبع بقلم المصحح :
" الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على جميع الأنبياء و المرسلين و الآل و الصحابة أجمعين و جميع التابعين بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : فقد تم طبع المنظومة الرحمانية ذات الأسرار الربانية الجامعة لأصول الطريقة الخلوتية ، و آداب التربية الشرعية الدالة على علم ناظمها و بركته بما نفع الله بها من أتباعه و تلامذته ، حتى نفدت طبعتها الأولى مع شرحها ، فكثرت الرغبات ، و توالت الطلبات في إعادة طبعها لتعميم نفعها ، فقام بذلك على نفقته العالم البركة الخير الثقة شيخ شيوخ الطريقة الخلوتية بقسنطينة اليوم المتحلى من أخلاق أسلافه بالنفائس الغالية السوم الشيخ سيدي مصطفى ابن الشيخ سيدي محمود ابن الشيخ سيدي الحاج محمد ابن الشيخ سيدي محمود ابن الشيخ الأكبر سيدي الحاج عبد الرحمن باش تارزي زاده الله من بره و توفيقه و سدده في سلوك طريقه بمنه آمين .
و لنحل هذه الخاتمة بكلمات وجيزة في ترجمته فنقول : لا زال هذا الرجل معروفا من شبابه بجمال العفة ، و حسن السمت ، و مكارم الأخلاق ، و الحياء التام ، و التواضع الفطري مع جميع الناس .
اعتنى بتربيته أبوه الشيخ سيدي محمود ، ثم ابن عم جده الشيخ سيدي الحاج السعيد ، فحفظ القرآن الكريم ، و قرأ العلم و تأدب بآداب الطريق و شبّ على الأخلاق الكريمة اللائقة بمثله ، في كرم مجده و شريف تربيته ، و ما هو مترشح له من الجلوس على سجادة الطريق ، و تهذيب الإخوان حتى نال بذلك المنزلة الرفيعة من قلوب عارفيه عموما ، و أهل الطريقة خصوصا .
و في رجـب عام 1329 هـ ولي خطـة الخطابة و الإمامة بالجامع الأخضر الحنفي ، بعد وفاة الشيخ سيدي السعيد الذي كان إماما خطيبا بالجامع الكتاني الحنفي .
و في شوال 1335 هـ جلس على سجادة الطريقة الخلوتية بعد وفاة عمه الشيخ البركة سيدي الحاج أحمد عليه الرحمة و الرضوان ، و له في الإذن بتلقين ذكر الطريقة الخلوتية إجازتان تتصلان بالقطب الأكبر و الغوث الأشهر الشيخ سيدي محمد بن عبد الرحمن القشطولي الأزهري دفين الجزائر ، الذي أتى بالطريقة الخلوتية إلى وطن الجزائر من ديار مصر " .
نقلت حرفيا من آخر المنظومة الرحمانية مطبعة النجاح .
أما كتاب "دراسات في الأدب العربي القديم" للدكتور عبد الله حمادي أثبت فيه رسائل من الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى الشيخ الطاهر العبيدي أحد كبار علماء الجزائر و سيد من سادات الطريقة الرحمانية له رسالة منظومة في الدعوة إلى الطريقة العزوزية الرحمانية المعروفة بالنصيحة العزوزية .
يقول في مطلعها : إن ترد عزة و فضل مزيه * فتلق الطريقة العزوزية
جاء في الرسالة التي بعث بها الشيخ عبد الحميد إلى صديقه الشيخ الطاهر العبيدي هذا نصها : " بسم الله الرحمن الرحيم و صلى الله على سيدنا محمد و آله و سلم ، إلى حضرة علم العلم و الفضل ، و معلم الكرم و النبل ، التقي الطاهر ، الأثواب السري البارع للأدب ، مستحق الشكر منا بما له علينا من سابق الأيدي العلامة الشيخ سيدي أبي الطيب الطاهر العبيدي ، أدامه الله بدرا طالعا في هالة درسه ، و غيثا هامعا في ربع العلم ، من بعد طمسه حتى وحشة قطره بأنسه ، و يحقق من بساتين تلاميذه ثمرات غرسه آمين .
وبعد : سلام كما تفتحت الأزهار في نسمات الأسحار ، و تحية تحيي قديم التذكار و إن شطت الديار ، فإني كتبته إليكم من حضرة قسنطينة ، يوم قدومي من رحلة كنت أعملتها من ناحية الجزائر و تلمسان ، لزيارة الأحياء و الأموات من العلماء و الصلحاء و أعيان الزمان ، فتشرفت بسادات كثيرين منهم العلماء و الصالحين ، و من أعظم الجميع قدرا و أشهرهم ذكرا ، سيدي أبي مدين الغوث ، و سيدي محمد السنوسي بتلمسان ، و سيدي محمد بن عبد الرحمن ، و سيدي عبد الرحمن الثعالبي بالجزائر ، و دعونا للمومنين عامة و إخواننا أمثالكم خاصة ، بما نرجو من الله تعالى فيه القبول و بلوغ المأمول ، و ذكرت لكم هذا لما أعلمه فيكم من محبة الصالحين ، و إن أمكنت لي الفرصة إن شاء الله تعالى كاتبتكم عن هذه الرحلة بمزيد تفصيل ، و وافى كتابكم في غيابي في هذه الرحلة ،، فلما قدمت و قبلته كرمته على غيره و قبلته ، و كان ما داخلني من السرور ، لكون خطابه مخففا لما غشيني من الخجل لمرّ عتابه ، و لك العتبى يا سيدي فيما ذكرته و منك الفضل فيما به ابتدأت و تفضلت فقد باغتتني القصيدة الغراء التي راقت و رقت و استوجبت الحمد ، و استحسنته ، فنظرت إلى أوصافك الكريمة ، فحليتني بها و نسبتني إليها ، ببركة محبتك الخالصة ما ظننت ، و يجازيك بالخـير الجزيـل على ما فعلـت ، هذا و إني ما أخرت الجواب متهاونـا – أستغفر الله – و لا متكاسلا ، و لكن حسبت أني أجبتكم فيمن أجبت ، حتى جاء كتابكم فعلمـت أنني غالط فيما ظننت ، فبادرت بها متحاملا على حلمك ، معتمدا على فضلـك ، و العفو يا سيدي من شيم أمثالكم لا أعدمني الله من أفضالكم ، و أقول :
إن كنت قد قصرت في الكتابة ** و الله ما ملت عن ودادي
و إنما كـأن ذلـك منــي ** عن غفلة ليس عن مرادي
فسامحوا طاهـري بفضــل ** و حسبكم مسكنا فؤادي
و يعود من العبد و جماعته السلام عليكم و على جماعتكم ، و أحبائكم كلهم لديكم، و كثير الدعاء لكم بالخير ، طالبا منكم مثله ، أخوكم و شاكر فضلكم ومملوك إحسانكم " .
و يقول الدكتور عبد الله حمادي : " و مما تمكنت من استخلاصه من المراسلة الوحيـدة التي عثرت عليها ، و التي وجههـا ابن بـاديس للشيـخ الطاهر العبيدي عام 1337 هـ / 1916 م أو 1917 م تقريبا ، أن عبد الحميد بن باديس كان في شبابه كثير التردد على أضرحة الأولياء و الصالحين ، و ذلك للتبرك بهم " .
و قد ثبت أن عبد الحميد بن باديس قد زار طولقة و برجها ، للتبرك بضريح الشيخين ابن عزوز و علي بن عمر ، و ربما كان ذلك في حدود 1925 م أو 1926 م و التي نقتطف منها هذه الأبيات ، التي تعبر عن مستوى عبد الحميد الشعري ، و كذا عن مدى تعلقه بالأولياء الصالحين :
عوجوا نحيي منازل الأمجاد ** و نـؤدي حـق زيارة الأسياد
و نحط أرجلنا بدار كرامة ** مبذولـة الروضـات للـرواد
فهي الملاذ لكل جان خائف ** و هي الشفا من وصمة الأنكاد
ما بين طولقة فبرج حيث ** تبصر نور أهـل الله في إصعـاد
الطريقة الرحمانية طريقة علم و تربية و جهاد :
لم تقتصر الطريقة الرحمانية على تعليم القرآن و العلوم الشرعية و التربية الروحية ، بل كانت إلى جانب تعليمها و تربيتها طريقة جهاد ، فأتباع الطريقة لم يتقاعسوا عن محاربة المستعمر طيلة وجوده في الجزائر ، إلى أن خرج منها مذموما مدحورا ، تحدث الدكتور يحي بوعزيز عن دور عائلتي المقراني و الحداد في مقال له بمجلة الثقافة جاء فيه : " غير أن دور جماهير الإخوان الرحمانيين سنة1871 م سيبقى بارزا و رئيسيا و فعالا في كل المناطق التي امتدت إليها الثورة ، بالبابور و البيبان و جرجرة و التيطري ، بل و في الأوراس نفسها ، إذ كانوا أداتها الرئيسية في الدعاية و المراسلة و الاتصالات و المعارك ، و حصار المدن و القلاع و المراكز العسكرية الفرنسية ، و من هنا فإن ثورتي المقراني و الحداد 1871 م هي ثورة الإخوان الرحمانيين ، الذين كانوا في نظر الفرنسيين أهم خطر واجهوه في الثورة ، و كاد أن يعصف بهم نظرا لعددهم الضخم ، و الدور الفعال و الواسع الذي قاموا به خلال الثـورة ، و الأهداف الواضحة التي كانوا يسعون لتحقيقها ، و المتمثلة في تحقيق الاستقلال الوطني لبلادهم .
و جاء في كتاب الطرق الدينية المسلمة للكاتب ب.ج أندري من أكاديمية العلوم الاستعمارية ، مقدمة الكتاب لجاك سوستـال الحاكـم العام للجزائر تحت عنوان " الطريقة الرحمانية " قال : " في سنة 1871 م ، تزعم سي محمد أمزيان الحداد شيخ الرحمانية في القبائل و التل ، تزعم و قاد الانتفاضة المناوئة للوجود الفرنسي " إلى أن يـقـول : " أغلقت زاوية جرجرة لأسباب سياسية ، و سجن شيخها و صودرت ممتلكاتها " .
و يقول نفس المصدر : " قد ظهرت في مدرونة بالأوراس سنة 1876 منظمة سرية بعد أحداث الشمال القسنطيني ، و سميت بالطريقة الدردورية ، نسبة لمؤسسها سي الهاشمي بن سي على دردور و هو تلميذ من منطقة سيدي ناجي متشبع بالمبادئ الحقيقية للطريقة الرحمانية بعد اضطراب الأوراس نال هو و أسرته و إخوانه حوالي 1500 جزائهم و جزاء تطرفهم ، غير أن أتباعه لم يقض عليهم بالكلية ، و في سنة1896 م ، بقي قادة الرحمانية النشيطين يسيرون حوالي 160000 منخرطا ، و رغم التطورات و العصرنة بقي الرحمانيون متشبثين بمبادئ الخلوتية الأصلية " إلى أن يقول : " كان للطريقة الرحمانية دور فعال في أحداث 8 ماي 1945 م و في الحملة التونسية 1943 م إلى 1944 م كانت الزوايا الرحمانية في قسنطينة و بسكرة ، محطات المبعوثين المتوجهين إلى بسكرة و الأوراس للمشاركة في اجتماعات سرية ، و كان للرحمانيين دور في أحداث 1954-1955 م " .
إن بقاء الزوايا و استمرارها في تأدية رسالتها التي أنشئت و أسست من أجلها و هي تعليم القرآن ، و العلوم الشرعية ، و نشر كلمة التوحيد و ترسيخها في العقول و الأفكار ، لأكبر دليل على صحة طريقة القوم ، و سلامة منهجهم ، و إخلاص عملهم ، و صدق نواياهم ، و هجرتهم لخالقهم الذي عرفوه فأخلصوا له دون انتظار شكر ، فحمى بحماه أعمالهم و جعلها متواصلة غير منقطعة ، و حفظ بلحظ عنايته زواياهم ، التي هي منذ مئات السنين تؤدي رسالتها العلمية والروحية ، رغم الحواجز و العراقيل التي تعترض سبيلها ، إلا أن الله دائم النصر و التأييد ، لعباده الصالحين و بيوتهم الطاهرة ، " و ما النّصر إلا من عند الله العزيز الحكيم" (سورة آل عمران 126) صدق الله العظيم .
الشيخ عبد القادر عثماني