عن التصوف والصوفية في الجزائر
مقاربة موضوعية(1/2)
بقلم: عبد المنعم القاسمي الحسني
يحتل موضوع التصوف وتحديدا الطرق الصوفية أهمية كبرى في حياتنا الفكرية المعاصرة، وهو من القضايا الشائكة والمعقدة في تاريخنا الثقافي والديني، وأسال الكثير من الحبر ولا يزال، ولا زلنا إلى يوم الناس هذا لم نفصل في هذا الموضوع برأي نهائي، فالكثير من الباحثين ما زال يتردد بين الإعلاء من قيمة هذه الظاهرة الدينية وبين الحط منها، وربما يعود ذلك إلى أنها مرتبطة بميول النفس البشرية وأهوائها، ولم يستطع بعضهم التخلص من ذاتيته والحكم على الأشياء بعيدا عن الأهواء والمنطلقات والخلفيات.
ويؤكد هذا الموقف قول أحد الباحثين: "وقد اختلفت آراء الباحثين في تصوف العصر الحديث؛ فمنهم من وجد فيه ـ في نطاق المغرب العربي خلال الفترة الحديثة المبكرة ـ عنصرا إيجابيا في توجيه الحياة الاجتماعية والعقلية والسياسية وخاصة في الدعوة إلى الجهاد وبث الحماسة في الجماهير التي انقادت لهم ، في حين رأى آخرون فيه كثيراً من ألوان السلبية التي جنتها الطرقية الضحلة على الحياة الاجتماعية والعقلية".
على أننا نلاحظ في الفترات الأخيرة عودة الاتجاه الصوفي بقوة إلى الواجهة، وبدء انهيار تلك الصورة القاتمة التي كانت تقدم لنا حول هذا التيار الفكري الراقي من التيارات التي عرفها العالم الإسلامي طيلة عهود طويلة من الزمن. وذلك بعد سقوط الأنظمة المناوئة لهذا الاتجاه، وفشل الحركات السلفية في قيادة المجتمعات الإسلامية.
وأحسب أن هذه المسألة من أهم القضايا المحورية التي يدور حولها النقاش حاليا في العالم الإسلامي والعالم الغربي، فقد اعتنق الكثير من الغربيين الإسلام عن طريق التصوف الإسلامي، وأصبح التصوف اليوم هو المظهر الرئيس للإسلام بالنسبة لهم، وأن الكثير من الدراسات حول العالم الإسلامي، منصبة حصرا على التيار الصوفي دون غيره، وأكثر المفكرين والفلاسفة مقروئية لدى الغربيين هما ابن عربي وجلال الدين الرومي، وهما من أقطاب التصوف الإسلامي.
يقول المستشرق الفرنسي المسلم "إريك جيوفروي" ـ المختص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج، شمال فرنسا ـ في حواره الخاص مع "إسلام أون لاين.نت": "أن المستقبل في العالم الإسلامي سيكون حتما للتيار الصوفي". ويرى أيضا أن الصوفية قد مارسوا السياسة في أحيان كثيرة كما مارسوا أدوارا ثقافية واجتماعية، "ثم إننا يمكن أن نلحظ أن هناك مدا جديدا من الأجيال الجديدة للصوفية يعي الأبعاد الاجتماعية للصوفية".
من خلال هذه المنطلقات والمعطيات أردنا الخوض في هذا الموضوع، وأن نبحث في سبب احتلال هؤلاء الصوفية هذه المكانة الرفيعة، ونرى ماذا قدم التصوف والصوفية للمجتمع المسلم؟ وهل اقتصر دورهم فقط على التحرير الذاتي، وتطهير النفس من الرعونات؟ وهل مكثوا في زواياهم يرددون اسم الله الأعظم غير ملتفتين إلى ما يجري حولهم من تطورات وتغيرات؟ كما يرى بعض الناس.
أم أنهم سعوا إلى تغيير واقعهم والمحيط الذي يعيشون فيه، وخدموا المجتمعات التي وجدوا بها وقادوها إلى بر الأمان. إن الإجابة على مثل هذه التساؤلات يتطلب المجلدات لكنا سنحاول أن نختصر قدر الإمكان، وأن نفي بالغرض ونتقيد بالمساحة.
وسنقصر حديثنا على الجزائر فقط دون غيرها من دول العالم الإسلامي ونأخذها كعينة، فالظاهر أن الأمر لا يختلف في بقية دول العالم الإسلامي.
وعليه فسنتناول في هذه العجالة أربعة نقاط أساسية، يمكن من خلالها الإجابة على التساؤلات السابقة وهي: تاريخ التصوف في الجزائر، نشأة العلاقة بين الصوفية والمجتمع، دور التصوف بشكل عام، وأخيرا الدور الاجتماعي الذي قام به التصوف في الجزائر.
تاريخ التصوف في الجزائر:
ظهر التصوف في العالم الإسلامي كمنحى فكري نظري بداية من القرن الثالث الهجري وذلك في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، على أيدي رجال شهد لهم الأعداء قبل الأصدقاء بالعلم والفضل والصلاح، وأرسوا قواعد هذا التيار الحديث النشأة، ورسموا له الأسس المنهجية التي بني عليها ولا تزال إلى الآن المصادر الأساسية لهذا العلم.
وفي نهاية القرن الثالث الهجري، بدأ الصوفية ينظمون أنفسهم طوائف وطرقا يخضعون فيها لنظم خاصة بكل طريقة، وكان قوام هذه الطرق طائفة من المريدين يلتفون حول شيخ مرشد يسلكهم ويبصرهم على الوجه الذي يحقق لهم كمال العلم وكمال العمل، كما نجد ذلك في بغداد في العصر العباسي الأول عند فرقة " السقطية " نسبة إلى السري السقطي و" الطيفورية " نسبة إلى أبي زيد طيفور، والخرازية نسبة إلى أبي سعيد الخراز والمحاسبية نسبة إلى الحارث المحاسبي...
فانتقل بذلك التصوف وتطور من ظاهرة أو مسألة فردية بين الإنسان وربه إلى ظاهرة اجتماعية طرقية كثر رجالها وأتباعهم كثرة ظاهرة، ومع تطور التصوف العملي وانتشار الظاهرة الصوفية لدى الأوساط الشعبية، حيث كثر عدد الأتباع والمريدين، والتف المريدون حول الشيخ ونسجوا حوله هالة من التقديس والتبجيل، بدأت تظهر الطرق الصوفية بشكلها المتعارف عليه الآن.
وأول ما عرف العالم الإسلامي من الطرق: الطريقة القادرية، والمدينية والرفاعية والشاذلية والخلوتية...
بالنسبة للجزائر أو ما يعرف قديما بالمغرب الأوسط، فقد بدأ التصوف فيه تصوفا نظريا، ثم تحول ابتداء من القرن العاشر الهجري، واتجه إلى الناحية العملية الصرف، وأصبح يطلق عليه "تصوف الزوايا والطرق الصوفية"، وقد ظل هذا التصوف العملي سائدا في جميع أنحاء المغرب الإسلامي حتى بعد سقوط الدويلات الثلاث ودخول الأتراك العثمانيين.
أما بالنسبة للجزائر أو ما يعرف قديما بالمغرب الأوسط، فقد بدأ التصوف فيه تصوفا نظريا، ثم تحول ابتداء من القرن العاشر الهجري، واتجه إلى الناحية العملية الصرف، وأصبح يطلق عليه "تصوف الزوايا والطرق الصوفية"، وقد ظل هذا التصوف العملي سائدا في جميع أنحاء المغرب الإسلامي حتى بعد سقوط الدويلات الثلاث ودخول الأتراك العثمانيين.
وكان من أوائل وأحد أوتاد الطريقة الصوفية في الجزائر: الشيخ أبو مدين شعيب بن الحسن الأندلسي، وقد عرفت طريقته "المدينيـة" شهرة واسعة وأتباعا كثيرين، في مختلف أنحاء المغرب الإسلامي، وازدادت شهرة على يد تلميذه عبد السلام بن مشيش (ت 665هـ= 1228م)، ثم ازدادت نشاطا وأحياها من بعده شيخ الطائفة الشاذلية وتلميذ ابن مشيش:"أبو الحسن الشاذلي". وكان لتعاليم الشاذلي في الجزائر الأثر الأكبر بحيث يكاد يجزم أن معظم الطرق التي ظهرت بعد القرن الثامن تتصل بطريقة أو بأخرى بالطريقة الشاذلية.
ومن أبرز علماء الجزائر الذين شاع التصوف العملي وانتشر بفضلهم عبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن يوسف السنوسي، اللذان يعتبران من كبار العلماء والزهاد في القرن التاسع الهجري، فقد جمع كل منهما بين الإنتاج العلمي والسلوك الصوفي، وانتفع بكل منهما خلق كثير وكان لهما تأثير في المعاصرين وفي اللاحقين، وقد كانا كلاهما من أتباع الطريقة الشاذلية، وألفوا كتبا في أصولها وفي تراجم رجالها. على حد تعبير الدكتور أبو القاسم سعد الله.
ونستطيع القول أن التصوف العملي أو الطرق الصوفية أول ما وجدت وجدت في بلاد القبايل بجاية والمناطق المحيطة، وكانت بجاية مركز إشعاع طرقي صوفي لعدة قرون من الزمن. بواسطة رجالات التصوف الكبار من أمثال أبي مدين، أبو زكريا الزواوي، أبو زكريا السطيفي، يحي العيدلي، أحمد زروق... ومن بجاية انتشر التصوف إلى بقية مناطق المغرب الأوسط.
ويمكن أن نرجع عوامل وأسباب انتشار التصوف بالجزائر، إلى أسباب فكرية، أسباب سياسية، أسباب اجتماعية...
1 ـ أسباب فكرية: كوجود أعلام صوفية عملوا على نشر هذه الطريقة بكامل المغرب الإسلامي، أثروا بسلوكهم وبعلمهم وبمؤلفاتهم، من أمثال الشيخ أبي مدين، الملياني والثعالبي... ويضاف إلى ذلك تأثر كثير من علمائنا بالتصوف المشرقي بدأ يسيطر بدوره على الساحة الفكرية بعد محاولة الإمام الغزالي التوفيق بين الشريعة والحقيقة.
2 ـ أسباب سياسية: كسقوط الدولة الموحدية: التي كانت تمثل دولة قوية واجهت الغزو الاسباني، ولأسباب داخلية وخارجية تدهورت أوضاعها، وكسقوط الأندلس: نتيجة التدهور السياسي الذي أصابها عقب سقوط الدولة الأموية ونتج عن سقوط الأندلس أمران: الغزو الإسباني لمعظم سواحل المغرب الإسلامي، الأمر الثاني: هجرة كثير من صوفية الأندلس إلى الأراضي الجزائرية.
3 ـ أسباب اجتماعية: منها انتشار البذخ والترف عند طبقات معينة، نتيجة الثراء الفاحش، وتراجع القيم الدينية والأخلاقية حيث أهمل الخاصة والعامة الكثير من مبادئ الدين وسلوكه القويم، وقد حارب الصوفية هذا الانحراف، وقاوموا بكل السبل والطرق هذه الاختلالات، مما أدى إلى انتشار مذهبهم. ولا التفات إلى المحاولات الرامية إلى إرجاع انتشار التصوف بهذه البلاد تفسيرات بعيدة عن الحقيقة والمنطق والصواب مثل: ثأر البربر أو ثأر المرأة أو عبادة الأولياء كتواصل لبعض الطقوس البربرية القديمة. كما يذهب إلى ذلك ادموند دوتيه( )، وغولدزيهر، ومن دار في فلكهم.
وقد مر التصوف في الجزائر بمرحلتين أساسيتين هما:
ـ فترة التصوف النخبوي، وذلك خلال القرون السادس والسابع والثامن الهجرية: وهي الفترة التي بقي فيها التصوف يدرس في المدارس الخاصة، واقتصاره على طبقة معينة من المتعلمين، وعدم انتشاره بين الطبقات الشعبية، وبقائه في الحواضر الكبرى: تلمسان، بجاية، وهران...
ـ فترة التصوف الشعبي، أو ما تعرف بفترة الانتقال من التصوف الفكري إلى التصوف الشعبي، وقد وقع ذلك في القرن التاسع الهجري، وفيها انتقل التصوف من الجانب النظري إلى الجانب العملي، وهو الانتشار الكبير للزوايا والرباطات في الريف والمدن، وانضواء الآلاف من الناس تحت لوائه، والتركيز على الذكر والخلوة، وآداب الصحبة وما إليها من مظاهر التصوف الشعبي. وبفتح باب التصوف للعامة وأهل الريف، انتقل من النخبة إلى العامة، من المدينة إلى الريف، وظهرت الطرق الصوفية الكبرى وانتشرت في مختلف أرجاء القطر: كالقادرية، المدينية، الشاذلية...
العلاقة بين الصوفية والمجتمع:
اتخذ التصوف في الجزائر ـ كما في بقية دول العالم الإسلامي ـ منذ بداية ظهوره بها أبعادا اجتماعية، وذلك بسبب الظروف التي كانت تعيشها البلاد في تلك الفترة (ق7، 8، 9هـ) وانساق الناس ورائه لما وجدوا فيه من مساواة وعدل وإحساس بالوجود والأهمية، فقد كان شكلا من أشكال التعبير عن الغضب الشعبي والتمييز الطبقي بين طبقة الأغنياء والمترفين وطبقة الفقراء والمعدمين.
المتصوفة الأوائل كانوا بمثابة النخبة التي تمسكت باستقلاليتها الفكرية والدينية تجاه السلطة الحاكمة، لذلك وقع اضطهادهم من طرف الحكام، وقاومهم العلماء الرسميون، والمشهد نفسه يتكرر تقريبا في كل العصور والعهود، كما وقع مع أبي مدين الغوث أو ابن النحوي، الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري، أحمد التيجاني، محي الدين بن مصطفى الحسني... والقائمة طويلة.
ووقع الالتقاء بين المتصوفة والشعب، في مواجهة السلطة، تموقعوا في نفس الخندق، فرض عليهم الأمر فرضا، ووجدوا أنفسهم في نفس الجبهة، يقاومون الظلم والتعسف، والتمييز. وهو ربما ما يفسر لنا سر هذه العلاقة بين العامة أو الشعب والمتصوفة، قبل الوصول إلى مبدأ الكرامة وسلطة الأولياء على أفكار العامة وخيالهم.
وسعى الصوفية إلى حل مشاكل المجتمع واتحدا الاثنان في مواجهة السلطة، واتخذا نفس الموقع ونفس الجبهة، فقاموا بمواجهة الظلم والطغيان والفساد، وهو ربما ما يفسر لنا العلاقة بين العامة والصوفية، فاتحاد الهدف نابع من فكر الصوفية وعقيدتهم: العيال عيال الله.
وقد كان الصوفية على مر العصور رمز الوحدة مع المجتمع، والمطالبة علنا بحقوق الشعب ومصالحه، فقد كان الولي الصالح أبو إسحاق الخياط كثير الدخول على يغمراسن لقضاء حاجيات الخلق.
إن هذا التلاقي قد بدأ بشكل عفوي، دون سابق تحضير أو تنظيم أو استعداد، ونتج عنه الكثير من النتائج الهامة لعل من أبرزها، الانتشار السريع للتصوف بين مختلف الطبقات الشعبية، قيادة الشعب بعد انهيار الدولة، واستطاع المتصوفة توظيف هذه العلاقة في الدفاع عن مصالح الشعب، ولم تنقطع هذه الصلة بين المتصوفة والعامة إلى يومنا هذا، بحيث لا نزال نجد تأثيرهم قويا في المجتمعات العربية الإسلامية، بالرغم من هذا التطور الفكري والثقافي، والعولمة ودخول الأفكار الحديثة. وان بنسب متفاوتة بين منطقة وأخرى.
ومن هنا نستطيع أن نفهم: لماذا اختارت الفئات الواسعة من المجتمع الانضمام والانتماء إلى هذا الاتجاه الفكري، في حين كان حكامها يتخذون مذهبا آخرا ويعتنقونه. فكان الصوفي فردا من مجتمع الناس، يأكل ويتاجر ويتزوج كما يفعل الناس، لكنه في نفس الآن كان يمثل قدوة لهم ونموذجا يتطلعون إليه ويعلمون بمتابعة مسيرته بينهم.
حقيقة فيه بعض العناصر الصوفية من لجأ إلى الفلوات والمقابر زاهدا متعبدا متجردا، لكن هذا الكلام لا ينطبق على كل الصوفية بل هي حالات استثنائية خاصة، ثم إنهم يرون أنه عندما تدعو إليهم سيتخلون عن مجاهداتهم الخاصة وينتقلون إلى خدمة الصالح العام، ولعل أبرز مثال على ذلك هو الأمير عبد القادر، الذي لبى داعي الجهاد وتخلى عن عزلته وتدريسه بزاوية والده الشيخ سيدي نحي الدين بوادي الحمام بالقرب من معسكر .
(يتبع)...
المصدر: موقع الشهاب للاعلام
مقاربة موضوعية(1/2)
بقلم: عبد المنعم القاسمي الحسني
يحتل موضوع التصوف وتحديدا الطرق الصوفية أهمية كبرى في حياتنا الفكرية المعاصرة، وهو من القضايا الشائكة والمعقدة في تاريخنا الثقافي والديني، وأسال الكثير من الحبر ولا يزال، ولا زلنا إلى يوم الناس هذا لم نفصل في هذا الموضوع برأي نهائي، فالكثير من الباحثين ما زال يتردد بين الإعلاء من قيمة هذه الظاهرة الدينية وبين الحط منها، وربما يعود ذلك إلى أنها مرتبطة بميول النفس البشرية وأهوائها، ولم يستطع بعضهم التخلص من ذاتيته والحكم على الأشياء بعيدا عن الأهواء والمنطلقات والخلفيات.
ويؤكد هذا الموقف قول أحد الباحثين: "وقد اختلفت آراء الباحثين في تصوف العصر الحديث؛ فمنهم من وجد فيه ـ في نطاق المغرب العربي خلال الفترة الحديثة المبكرة ـ عنصرا إيجابيا في توجيه الحياة الاجتماعية والعقلية والسياسية وخاصة في الدعوة إلى الجهاد وبث الحماسة في الجماهير التي انقادت لهم ، في حين رأى آخرون فيه كثيراً من ألوان السلبية التي جنتها الطرقية الضحلة على الحياة الاجتماعية والعقلية".
على أننا نلاحظ في الفترات الأخيرة عودة الاتجاه الصوفي بقوة إلى الواجهة، وبدء انهيار تلك الصورة القاتمة التي كانت تقدم لنا حول هذا التيار الفكري الراقي من التيارات التي عرفها العالم الإسلامي طيلة عهود طويلة من الزمن. وذلك بعد سقوط الأنظمة المناوئة لهذا الاتجاه، وفشل الحركات السلفية في قيادة المجتمعات الإسلامية.
وأحسب أن هذه المسألة من أهم القضايا المحورية التي يدور حولها النقاش حاليا في العالم الإسلامي والعالم الغربي، فقد اعتنق الكثير من الغربيين الإسلام عن طريق التصوف الإسلامي، وأصبح التصوف اليوم هو المظهر الرئيس للإسلام بالنسبة لهم، وأن الكثير من الدراسات حول العالم الإسلامي، منصبة حصرا على التيار الصوفي دون غيره، وأكثر المفكرين والفلاسفة مقروئية لدى الغربيين هما ابن عربي وجلال الدين الرومي، وهما من أقطاب التصوف الإسلامي.
يقول المستشرق الفرنسي المسلم "إريك جيوفروي" ـ المختص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج، شمال فرنسا ـ في حواره الخاص مع "إسلام أون لاين.نت": "أن المستقبل في العالم الإسلامي سيكون حتما للتيار الصوفي". ويرى أيضا أن الصوفية قد مارسوا السياسة في أحيان كثيرة كما مارسوا أدوارا ثقافية واجتماعية، "ثم إننا يمكن أن نلحظ أن هناك مدا جديدا من الأجيال الجديدة للصوفية يعي الأبعاد الاجتماعية للصوفية".
من خلال هذه المنطلقات والمعطيات أردنا الخوض في هذا الموضوع، وأن نبحث في سبب احتلال هؤلاء الصوفية هذه المكانة الرفيعة، ونرى ماذا قدم التصوف والصوفية للمجتمع المسلم؟ وهل اقتصر دورهم فقط على التحرير الذاتي، وتطهير النفس من الرعونات؟ وهل مكثوا في زواياهم يرددون اسم الله الأعظم غير ملتفتين إلى ما يجري حولهم من تطورات وتغيرات؟ كما يرى بعض الناس.
أم أنهم سعوا إلى تغيير واقعهم والمحيط الذي يعيشون فيه، وخدموا المجتمعات التي وجدوا بها وقادوها إلى بر الأمان. إن الإجابة على مثل هذه التساؤلات يتطلب المجلدات لكنا سنحاول أن نختصر قدر الإمكان، وأن نفي بالغرض ونتقيد بالمساحة.
وسنقصر حديثنا على الجزائر فقط دون غيرها من دول العالم الإسلامي ونأخذها كعينة، فالظاهر أن الأمر لا يختلف في بقية دول العالم الإسلامي.
وعليه فسنتناول في هذه العجالة أربعة نقاط أساسية، يمكن من خلالها الإجابة على التساؤلات السابقة وهي: تاريخ التصوف في الجزائر، نشأة العلاقة بين الصوفية والمجتمع، دور التصوف بشكل عام، وأخيرا الدور الاجتماعي الذي قام به التصوف في الجزائر.
تاريخ التصوف في الجزائر:
ظهر التصوف في العالم الإسلامي كمنحى فكري نظري بداية من القرن الثالث الهجري وذلك في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، على أيدي رجال شهد لهم الأعداء قبل الأصدقاء بالعلم والفضل والصلاح، وأرسوا قواعد هذا التيار الحديث النشأة، ورسموا له الأسس المنهجية التي بني عليها ولا تزال إلى الآن المصادر الأساسية لهذا العلم.
وفي نهاية القرن الثالث الهجري، بدأ الصوفية ينظمون أنفسهم طوائف وطرقا يخضعون فيها لنظم خاصة بكل طريقة، وكان قوام هذه الطرق طائفة من المريدين يلتفون حول شيخ مرشد يسلكهم ويبصرهم على الوجه الذي يحقق لهم كمال العلم وكمال العمل، كما نجد ذلك في بغداد في العصر العباسي الأول عند فرقة " السقطية " نسبة إلى السري السقطي و" الطيفورية " نسبة إلى أبي زيد طيفور، والخرازية نسبة إلى أبي سعيد الخراز والمحاسبية نسبة إلى الحارث المحاسبي...
فانتقل بذلك التصوف وتطور من ظاهرة أو مسألة فردية بين الإنسان وربه إلى ظاهرة اجتماعية طرقية كثر رجالها وأتباعهم كثرة ظاهرة، ومع تطور التصوف العملي وانتشار الظاهرة الصوفية لدى الأوساط الشعبية، حيث كثر عدد الأتباع والمريدين، والتف المريدون حول الشيخ ونسجوا حوله هالة من التقديس والتبجيل، بدأت تظهر الطرق الصوفية بشكلها المتعارف عليه الآن.
وأول ما عرف العالم الإسلامي من الطرق: الطريقة القادرية، والمدينية والرفاعية والشاذلية والخلوتية...
بالنسبة للجزائر أو ما يعرف قديما بالمغرب الأوسط، فقد بدأ التصوف فيه تصوفا نظريا، ثم تحول ابتداء من القرن العاشر الهجري، واتجه إلى الناحية العملية الصرف، وأصبح يطلق عليه "تصوف الزوايا والطرق الصوفية"، وقد ظل هذا التصوف العملي سائدا في جميع أنحاء المغرب الإسلامي حتى بعد سقوط الدويلات الثلاث ودخول الأتراك العثمانيين.
أما بالنسبة للجزائر أو ما يعرف قديما بالمغرب الأوسط، فقد بدأ التصوف فيه تصوفا نظريا، ثم تحول ابتداء من القرن العاشر الهجري، واتجه إلى الناحية العملية الصرف، وأصبح يطلق عليه "تصوف الزوايا والطرق الصوفية"، وقد ظل هذا التصوف العملي سائدا في جميع أنحاء المغرب الإسلامي حتى بعد سقوط الدويلات الثلاث ودخول الأتراك العثمانيين.
وكان من أوائل وأحد أوتاد الطريقة الصوفية في الجزائر: الشيخ أبو مدين شعيب بن الحسن الأندلسي، وقد عرفت طريقته "المدينيـة" شهرة واسعة وأتباعا كثيرين، في مختلف أنحاء المغرب الإسلامي، وازدادت شهرة على يد تلميذه عبد السلام بن مشيش (ت 665هـ= 1228م)، ثم ازدادت نشاطا وأحياها من بعده شيخ الطائفة الشاذلية وتلميذ ابن مشيش:"أبو الحسن الشاذلي". وكان لتعاليم الشاذلي في الجزائر الأثر الأكبر بحيث يكاد يجزم أن معظم الطرق التي ظهرت بعد القرن الثامن تتصل بطريقة أو بأخرى بالطريقة الشاذلية.
ومن أبرز علماء الجزائر الذين شاع التصوف العملي وانتشر بفضلهم عبد الرحمن الثعالبي ومحمد بن يوسف السنوسي، اللذان يعتبران من كبار العلماء والزهاد في القرن التاسع الهجري، فقد جمع كل منهما بين الإنتاج العلمي والسلوك الصوفي، وانتفع بكل منهما خلق كثير وكان لهما تأثير في المعاصرين وفي اللاحقين، وقد كانا كلاهما من أتباع الطريقة الشاذلية، وألفوا كتبا في أصولها وفي تراجم رجالها. على حد تعبير الدكتور أبو القاسم سعد الله.
ونستطيع القول أن التصوف العملي أو الطرق الصوفية أول ما وجدت وجدت في بلاد القبايل بجاية والمناطق المحيطة، وكانت بجاية مركز إشعاع طرقي صوفي لعدة قرون من الزمن. بواسطة رجالات التصوف الكبار من أمثال أبي مدين، أبو زكريا الزواوي، أبو زكريا السطيفي، يحي العيدلي، أحمد زروق... ومن بجاية انتشر التصوف إلى بقية مناطق المغرب الأوسط.
ويمكن أن نرجع عوامل وأسباب انتشار التصوف بالجزائر، إلى أسباب فكرية، أسباب سياسية، أسباب اجتماعية...
1 ـ أسباب فكرية: كوجود أعلام صوفية عملوا على نشر هذه الطريقة بكامل المغرب الإسلامي، أثروا بسلوكهم وبعلمهم وبمؤلفاتهم، من أمثال الشيخ أبي مدين، الملياني والثعالبي... ويضاف إلى ذلك تأثر كثير من علمائنا بالتصوف المشرقي بدأ يسيطر بدوره على الساحة الفكرية بعد محاولة الإمام الغزالي التوفيق بين الشريعة والحقيقة.
2 ـ أسباب سياسية: كسقوط الدولة الموحدية: التي كانت تمثل دولة قوية واجهت الغزو الاسباني، ولأسباب داخلية وخارجية تدهورت أوضاعها، وكسقوط الأندلس: نتيجة التدهور السياسي الذي أصابها عقب سقوط الدولة الأموية ونتج عن سقوط الأندلس أمران: الغزو الإسباني لمعظم سواحل المغرب الإسلامي، الأمر الثاني: هجرة كثير من صوفية الأندلس إلى الأراضي الجزائرية.
3 ـ أسباب اجتماعية: منها انتشار البذخ والترف عند طبقات معينة، نتيجة الثراء الفاحش، وتراجع القيم الدينية والأخلاقية حيث أهمل الخاصة والعامة الكثير من مبادئ الدين وسلوكه القويم، وقد حارب الصوفية هذا الانحراف، وقاوموا بكل السبل والطرق هذه الاختلالات، مما أدى إلى انتشار مذهبهم. ولا التفات إلى المحاولات الرامية إلى إرجاع انتشار التصوف بهذه البلاد تفسيرات بعيدة عن الحقيقة والمنطق والصواب مثل: ثأر البربر أو ثأر المرأة أو عبادة الأولياء كتواصل لبعض الطقوس البربرية القديمة. كما يذهب إلى ذلك ادموند دوتيه( )، وغولدزيهر، ومن دار في فلكهم.
وقد مر التصوف في الجزائر بمرحلتين أساسيتين هما:
ـ فترة التصوف النخبوي، وذلك خلال القرون السادس والسابع والثامن الهجرية: وهي الفترة التي بقي فيها التصوف يدرس في المدارس الخاصة، واقتصاره على طبقة معينة من المتعلمين، وعدم انتشاره بين الطبقات الشعبية، وبقائه في الحواضر الكبرى: تلمسان، بجاية، وهران...
ـ فترة التصوف الشعبي، أو ما تعرف بفترة الانتقال من التصوف الفكري إلى التصوف الشعبي، وقد وقع ذلك في القرن التاسع الهجري، وفيها انتقل التصوف من الجانب النظري إلى الجانب العملي، وهو الانتشار الكبير للزوايا والرباطات في الريف والمدن، وانضواء الآلاف من الناس تحت لوائه، والتركيز على الذكر والخلوة، وآداب الصحبة وما إليها من مظاهر التصوف الشعبي. وبفتح باب التصوف للعامة وأهل الريف، انتقل من النخبة إلى العامة، من المدينة إلى الريف، وظهرت الطرق الصوفية الكبرى وانتشرت في مختلف أرجاء القطر: كالقادرية، المدينية، الشاذلية...
العلاقة بين الصوفية والمجتمع:
اتخذ التصوف في الجزائر ـ كما في بقية دول العالم الإسلامي ـ منذ بداية ظهوره بها أبعادا اجتماعية، وذلك بسبب الظروف التي كانت تعيشها البلاد في تلك الفترة (ق7، 8، 9هـ) وانساق الناس ورائه لما وجدوا فيه من مساواة وعدل وإحساس بالوجود والأهمية، فقد كان شكلا من أشكال التعبير عن الغضب الشعبي والتمييز الطبقي بين طبقة الأغنياء والمترفين وطبقة الفقراء والمعدمين.
المتصوفة الأوائل كانوا بمثابة النخبة التي تمسكت باستقلاليتها الفكرية والدينية تجاه السلطة الحاكمة، لذلك وقع اضطهادهم من طرف الحكام، وقاومهم العلماء الرسميون، والمشهد نفسه يتكرر تقريبا في كل العصور والعهود، كما وقع مع أبي مدين الغوث أو ابن النحوي، الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري، أحمد التيجاني، محي الدين بن مصطفى الحسني... والقائمة طويلة.
ووقع الالتقاء بين المتصوفة والشعب، في مواجهة السلطة، تموقعوا في نفس الخندق، فرض عليهم الأمر فرضا، ووجدوا أنفسهم في نفس الجبهة، يقاومون الظلم والتعسف، والتمييز. وهو ربما ما يفسر لنا سر هذه العلاقة بين العامة أو الشعب والمتصوفة، قبل الوصول إلى مبدأ الكرامة وسلطة الأولياء على أفكار العامة وخيالهم.
وسعى الصوفية إلى حل مشاكل المجتمع واتحدا الاثنان في مواجهة السلطة، واتخذا نفس الموقع ونفس الجبهة، فقاموا بمواجهة الظلم والطغيان والفساد، وهو ربما ما يفسر لنا العلاقة بين العامة والصوفية، فاتحاد الهدف نابع من فكر الصوفية وعقيدتهم: العيال عيال الله.
وقد كان الصوفية على مر العصور رمز الوحدة مع المجتمع، والمطالبة علنا بحقوق الشعب ومصالحه، فقد كان الولي الصالح أبو إسحاق الخياط كثير الدخول على يغمراسن لقضاء حاجيات الخلق.
إن هذا التلاقي قد بدأ بشكل عفوي، دون سابق تحضير أو تنظيم أو استعداد، ونتج عنه الكثير من النتائج الهامة لعل من أبرزها، الانتشار السريع للتصوف بين مختلف الطبقات الشعبية، قيادة الشعب بعد انهيار الدولة، واستطاع المتصوفة توظيف هذه العلاقة في الدفاع عن مصالح الشعب، ولم تنقطع هذه الصلة بين المتصوفة والعامة إلى يومنا هذا، بحيث لا نزال نجد تأثيرهم قويا في المجتمعات العربية الإسلامية، بالرغم من هذا التطور الفكري والثقافي، والعولمة ودخول الأفكار الحديثة. وان بنسب متفاوتة بين منطقة وأخرى.
ومن هنا نستطيع أن نفهم: لماذا اختارت الفئات الواسعة من المجتمع الانضمام والانتماء إلى هذا الاتجاه الفكري، في حين كان حكامها يتخذون مذهبا آخرا ويعتنقونه. فكان الصوفي فردا من مجتمع الناس، يأكل ويتاجر ويتزوج كما يفعل الناس، لكنه في نفس الآن كان يمثل قدوة لهم ونموذجا يتطلعون إليه ويعلمون بمتابعة مسيرته بينهم.
حقيقة فيه بعض العناصر الصوفية من لجأ إلى الفلوات والمقابر زاهدا متعبدا متجردا، لكن هذا الكلام لا ينطبق على كل الصوفية بل هي حالات استثنائية خاصة، ثم إنهم يرون أنه عندما تدعو إليهم سيتخلون عن مجاهداتهم الخاصة وينتقلون إلى خدمة الصالح العام، ولعل أبرز مثال على ذلك هو الأمير عبد القادر، الذي لبى داعي الجهاد وتخلى عن عزلته وتدريسه بزاوية والده الشيخ سيدي نحي الدين بوادي الحمام بالقرب من معسكر .
(يتبع)...
المصدر: موقع الشهاب للاعلام
2 التعليقات :
شكراعلى الإثراء
اين المتاابعة ؟؟؟؟
إرسال تعليق