بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
العلامة الشيخ سيدي محمد المبارك المغربي الجزائري الدلسي الحسني المالكي:
ولد سنة ألف ومائتين وثلاث وعشرين، ولدى تمييزه اشتغل بحفظ القرآن ثم في تحصيل ما لا بد منه من علوم الدين، ثم عكف على العبادة والتقوى في السر والنجوى، وكان في بداية أمره يأوي إلى غابة كثيرة الوحوش والسباع، يعبد الله فيها أياماً ثم يرجع إلى أهله يتزود لمثلها ويرجع لمكانه، حتى نادته هواتف العنايات بلطائف الإشارات، وطابت سريرته واستنارت بصيرته، وتخلى من أوحاله وتحلى بجميل أحواله، فأخذ الطريقة البكرية الخلوتية عن صاحب المآثر الأحمدية، المرشد الكامل والولي الفاضل، سيدي الشيخ علي بن عيسى، ولازم المجاهدة مدة على يده، فلما دنت وفاته أوصى به خليفته الأكبر سيدي الشيخ محمد المهدي السكلاوي، فتولى تربيته، حتى فتح الله عليه فاشتغل بالإرشاد ونفع العباد، وشهر الطريقة وشيد معالمها ونهج منهج الحقيقة وأرشد إليها رائمها، حتى سار صيته في الأقطار وقصدته الناس من صغار وكبار، فبذل في نصح الخلق همته وأحسن لهم نيته، وجمعهم على الملك الحق وسلك بهم مسلك الصدق، وتخرج على يده عدد كثير ووصل إلى مقصوده من لاحظته عين عناية اللطيف الخبير، وسمعت من كثير ممن كان له تردد إليه، أن طائفة من الجن أخذوا عنه واهتدوا على يديه، وكانوا يتلقون من حكمه ومعارفه ويأخذون عنه معالي نصائحه ولطائفه، وكان له في السخاء والكرم والعطاء، اليد الطولى والقدح المعلى، يعطي قاصده العطاء الجزيل ويغمر بوافر فضله ومديد إحسانه الوارد والنزيل، ينفق دائماً على جماعته المتجردين ويحسن إلى الفقراء والمساكين، منزله مأوى لليتامى والأرامل، تلتمس فيه أنواع الفضائل والفواضل.
ولما قصدت الأمة الفرانساوية بلاد الجزائر جمع جموعاً من العباد وسار بهم إلى المدافعة عن الوطن والجهاد، وما زال يحرض الناس على القتال ويساعدهم في الهمة والنفس والمال، إلى أن ظهر الكفار على الإسلام لحكمة أرادها الملك العلام، فقصد بلاد الشام مهاجراً بأهله وقرابته، وتبعه خلق كثير من مريديه وأهل عصابته، واستوطن دمشق الشام، وكان له بها من الله زيادة فتح وإنعام، وأخبر أنه لما استشرف عليها شاهد أولياءها قد أقبلوا بسلمون عليه، وأظهروا الفرح والسرور بقدومه وقدموا أنواع التهاني إليه، وخرج لملاقاته جملة من أشراف البلدة وعلمائها، وتجارها وعوامها وعظمائها، فاستأنسوا به الاستئناس التام واشتهر فضله لدى الخاص والعام، واجتمعت عليه القلوب وصار مقصوداً في التوسل به بدفع الهموم والكروب، فأقام في دمشق عامين، ثم توجه لبيت الله الحرام لأداء فرض الحج وزيارة خير الأنام، وفي خدمته خمسة وأربعون نفراً من أحبابه ومريديه وأصحابه، وبعد رجوعه لداره، اتخذ لنفسه خلوة في منزله لا يخرج منها إلا لقضاء أوطاره، إلا يوم الخميس فإنه جعله لزيارة القاصدين ومذاكرة الواردين، وكثيراً ما يقرأ عليهم كتب الرقائق ويستخرج لهم من كنوزها لآلئ الدقائق، ليزيدهم في فعل المأمور ترغيباً، وعن المآثم ترهيباً، ثم يعود لخلوته ليلة السبت بالهمة العالية والقوة السامية، ولم يزل على ذلك حتى قدم على السيد المالك.
وأخبرني ولده السيد محمد الطيب عن والدته بنت الشيخ محمد المهدي شيخ المترجم المرقوم، أنها دخلت عليه مرة في خلوته لتحظى برؤيته وتغنم جميل زيارته، فلما أشرفت عليه اعترتها هيبة عظيمة وقشعريرة جسيمة، حتى لم تطق أن تسلم عليه ولا أن تنظر إليه، وسمعته يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة ويقول له اضمني يا رسول الله، ثم حمد الله وقال يا رسول الله اضمن أولادي ثم حمد الله، وقال يا رسول الله اضمن أزواجي ثم حمد الله، وقال يا رسول الله اضمن كل من تعلق بي وتلقى وردي وبقي طويلاً وهو يتضرع إليه صلى الله عليه وسلم في قبول مسئلته، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال هذا جل آمالي، وربحي منك يا رسول الله ورأس مالي.
ثم سمعته يخاطب والدها ويذكر له بعض الأسرار والمكاشفات، وبعد فراغه من ذلك كله سرى عنها ذلك الحال وزال عنها الشتات، فأقبلت عليه فتلقاها بالرحب والبشاشة والسرور والهشاشة، وكان يعظمها جداً حرمة لأستاذه وقدوته وملاذه، ولما يرى فيها من الخير والصلاح والفوز والفلاح، وعزم عليها أن لا تحدث بهذا الحديث أحداً، ما دام موجوداً في قيد الحياة وإن طال المدى، فما ذكرت ذلك لسواه حتى توفاه الله.
وأخبر الشيخ المحفوظ ابن عم الأستاذ الشيخ محمد المهدي وكان رحمه الله تعالى رجلاً صالحاً تقياً ناجحاً، إنه توجه يوماً مع المترجم وشيخه الشيخ محمد المهدي في بلاد المغرب من قرية إلى أخرى وهو ساع في خدمتهما لينال ثواباً وأجراً، فوقفت بغلة الشيخ قرب قبر في الطريق، فقال الشيخ ما أصابها من البلاء؟ فقال المترجم إن الله كشف لي عن صاحب هذا الضريح، وهو الذي استوقف الدابة يلتمس منك صالح الدعاء، فدعا له فانطلقت، وإلى نحو المطلوب توجهت، ثم مرا في طريقهما على شجرة عظيمة، فقال الشيخ للمترجم ليت شعري في أي زمان غرست هذه الشجرة الجسيمة، ومن غرسها في هذا المكان فهل من يعرف ذلك الآن؟ فأطرق المترجم غير طويل، ثم قال أيها الأستاذ الجليل: إن الله أنطقها لي فأخبرتني أنها غرست في التاريخ الفلاني وإن غارسها فلان ابن فلان الفلاني.
وأخبر عنه أيضاً هذا الرجل الصالح أن المترجم جاء يوماً إلى أستاذه المرقوم، يخبره بوفاة أخ له في الله من مكة من رجال الغيب الكرام، ويستأذنه في التوجه إلى بيت الله الحرام، للصلاة عليه وتشييع جنازته، وحضور دفنه في تربته، فأذن له فغاب، وبعد برهة رجع وآب.
وطلب منه مرة بعض أصحابه زيارة الشيخ الأكبر والدعاء بالمرغوب في فسيح رحابه، فقال له: الرجل هو الذي يجتمع بالولي عند الوقوف بحضرته، وبعد انتقال المترجم إلى الدار الآخرة جاء بعض أولاده لزيارة جده والد والدته وشيخ المترجم المذكور الشيخ محمد المهدي، وفي يده كتاب الابريز في مناقب الشيخ الدباغ عبد العزيز، فأمره أن يسمعه منه شيئاً، فقرأ عليه جملة من كراماته وعلومه المستجادة، فقال له: لو سطر أحد مآثر والدك ومناقبه لبلغت هذا المبلغ وزيادة، وحدث ولده أنه كان يوماً عند الأمير السيد عبد القادر الجزائري، وعنده رجل من أهل فاس يسمى الشيخ عمر بن سودة، فقال له الأمير: إن والد هذا الشاب كان في المجاهدة من أضراب أبي يزيد البسطامي، وأبي سليمان الداراني. وبالجملة لو أردت أن أستقصي أحوال هذا السيد الجليل لأدى المقام إلى الإسهاب والتطويل، وما ذكرته يدل على بعض مقامه، وعلى رفيع رتبته ووجوب احترامه، مات رحمه الله تعالى سنة تسع وستين ومائتين وألف، ودفن في سفح قاسيون في جوار نبي الله ذي الكفل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
المرجع:
- كتاب: حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر/ عبد الرزاق البيطار، الطبعة الثانية - 1413هـ، دار صادر، بيروت، ج/3، صفحة: 1371.
0 التعليقات :
إرسال تعليق